لم تعد قراءة الخارطة السياسية في العراق بحاجة إلى جهود معلوماتية أو خبرات سياسية وإعلامية كبيرة، فالنظام السياسي المعنون “الشيعي” من دون سند من دستورهم الذي وضعوه، نظام لا يسمح قادته بالتفريط به وخسارته كما يعلنون الآن هم ومناصروهم عبر الفضائيات، حين تسألهم: ماذا يعني الفشل الانتخابي بمقاطعة أكثر من 80 في المئة من الناس وهزيمة الذين كانوا يخططون للسيطرة على البرلمان ليصبح برلمان الميليشيات، أليس ذلك فشلا لنظام تدعون أنه شيعي والطائفة المقهورة منه براء؟ يجيبون: إنها مؤامرة أميركية – سعودية – إماراتية ضد “دولتنا وحشدنا الشيعي”.
ترديد نظرية المؤامرة ناتج عن فراغ سياسي، لهذا وجدنا نوري المالكي أكثر قادة الأحزاب ولعا بنظرية المؤامرة وأكثرهم صدقا في ما بعد، بإعلانه فشلهم جميعا تشكيل ما سمي بالإطار التنسيقي الولائي بإعلان رسمي لانقسام ما سمي بالبيت الشيعي ولمواجهة الخرق، الذي أحدثه فوز كتلة مقتدى الصدر أمام هزيمة ما تسمي نفسها قوى “المقاومة” الشيعية في العراق.
خطوة الإطار التنسيقي هذه استحضار سياسي سطحي لأمجاد تلك الأحزاب ومنتسبيها عام 2005 حين شكلوا “الائتلاف الشيعي الموحّد” وأوهموا بسطاء الشيعة في ذلك الوقت بأنهم يمثلون خيار مرجعهم علي السيستاني، وزعوا صوره في الشوارع والساحات إلى جانب رقم كتلتهم الموحّدة في ذلك الوقت، وصدرت ما تشبه الفتاوى من بعض رجال الدين مثل “مَنْ لا ينتخب الائتلاف العراقي تَحرُم عليه زوجته”.
في ترتيب إيراني مُتقن أوكل لذلك الائتلاف الشيعي الموحّد عام 2005 بجميع فصائله، حتى تلك التي حاربت ميدانيا الاحتلال العسكري الأميركي إلى جانب فصائل عراقية “سنيّة”، عدم التفريط بإعلان هوية مذهبية لنظام العراق الجديد، حيث خُدعت بالصياغات الدستورية الموجهة من مرجعية النجف أطراف محسوبة على التيار الليبرالي والقيادات الكردية التي كان همّها تثبيت حقوق الأكراد وهم معذورون في ذلك وبعض السنة المتخلفين سياسيا.
ترديد نظرية المؤامرة ناتج عن فراغ سياسي، لهذا وجدنا نوري المالكي أكثر قادة الأحزاب ولعا بنظرية المؤامرة
كان الفوز الانتخابي رسالة ملغومة لشعب العراق بأن هذه الأحزاب ممثلة للمكون الشيعي ذي الأغلبية السكانية كما يقال، ليصبح الفوز الوسيلة السحرية للسيطرة على مرافق الحكم في العراق وخداع الأكراد وممثلين بائسين من السنة بالشراكة الكاذبة. لكن في الجانب الثاني كانت تلك الأحزاب توحي للجميع بأنها ممثلة لأول حكم شيعي في جغرافية العرب بحجة أن السنة حكموا العراق منذ الدولة العثمانية ومن ثم تأسيس الدولة العراقية الحديثة في عام 1921، مع أن الشيعة شاركوا في حكم العراق عبر كل الحكومات الملكية والجمهورية وخاصة في عهد النظام السابق.
رغم ما عانته طائفة رئيسة من عرب العراق من قتل ممنهج لفئة الكفاءات التي خدمت الوطن وترويع وتدمير ونهب ممتلكات الناس وإذلال لعلية القوم، لكن في النهاية انكشفت حقيقة قادة المشروع الطائفي من اللصوص والكذابين أمام من كانوا يعتقدون أنه جمهورهم من المكون الطائفي “الشيعي”، فكانت ثورة أكتوبر 2019 لحظة الإعلان الحقيقي للهزيمة السياسيّة النهائية حتى وإن استمروا إلى هذه اللحظة في الحكم.
لهذه الأسباب السياسية وغيرها من معطيات الواقع اللوجستي الذي أنتجته ثورة الشباب العراقي، كانت ردة فعل المصدومين من انكشاف الحال، المتحمّسين لإنجاز الحلقات النهائية من مشروع ولاية الفقيه في العراق هي الأداة الوحيدة للمافيات، القتل والترويع، وليست الحلول السياسية التي تفرض مداواة الفشل بالاعتراف بالأخطاء مثلا.
غالبية ما يقال في وسائل الإعلام العراقي التابعة للأحزاب الشيعية أو العربي الخليجي خاصة المهادن لنظام الفساد أو في مواقع التواصل الاجتماعي المشتراة بالمال العراقي المسروق حول نتائج الانتخابات وهي فاصلة عابرة أمام حالة الانهيار الكبير إنما هي محاولة غبيّة فاشلة وصرف للأنظار لإنقاذ الهزيمة الشاملة للنظام السياسي، عبر تجزئتها وتحويل نتائج الهزيمة الكبرى إلى جزئيات فنية بفشل انتخابي في عدد الأصوات هنا وهناك يمكن حلها عبر التوافق بين الأطراف الشيعية المتحكمة زورا بمصير العراق.
لعبة أركان قادة الهزيمة السياسية التاريخية للأحزاب الموالية، والتي ترهلت وتفككت نتيجة ضخامة خزائن المال المسروق من قوت العراقيين خاصة مدن الوسط والجنوب، هي في استحضار بائس لسياسات المرحلة الأولى بعد احتلال 2003 وأدواتها، وأهمها إحياء نغمة الاحتراب الطائفي، لكنّ هذه المرة بتنفيذ مجازر دموية دون أغطية وشعارات سياسية، هي تعبير عن انتقام لحظي طائفي مثاله المؤلم مجزرة ديالى صاحبة الإرث الطويل في مواجهة القتلة.
دائما في مثل هذه اللحظات القاتمة يلجأ الخاسرون المهزومون إلى خيار الدم، مثال جريمة ديالى في السادس والعشرين من أكتوبر يكشف مستوى الانهيار التاريخي، ورغم فداحة الفجيعة لأهل المقدادية من سنّة وشيعة فإنها شعلة مضيئة على طريق الخلاص.
كانت الذرائع الحكومية وبيانات الرئاسات الثلاث والبيانات السخيفة لبعض الأحزاب بتحميل المدعو داعش المسؤولية دون التجرؤ على قول كامل الحقيقة بأن هذه المنظمة الإرهابية هي فصيل خادم لمن يدّعون المقاومة والممانعة داخل وخارج العراق.
صدمة الانتخابات الأخيرة عطّلت آمال الأحزاب وميليشياتها بالتسريع بإقامة الدولة الميليشياوية المطلوبة بعد قيام برلمانها. سبب تلك النتيجة الانتخابية المرفوضة من تلك الأحزاب هو أن أغلبها لم يقرأ الواقع العراقي الحقيقي، حيث من الصعب قيام أنموذج عراقي يحكمه الحشد الشيعي كمثال للحرس الثوري الإيراني، كما تجاهلوا التاريخ السياسي العراقي وقرأوه من زاوية طائفية قائمة على مغالطات تاريخية مصادرها من ولاية الفقيه المرشد الأعلى خامنئي.
جانب تفصيلي مهم يعطي تفسيرا للانفعالات العسكرية المرتبكة خلال الأيام الماضية ومعاقبتهم للمواطنين العراقيين في محافظة ديالى العراقية، هو أن نتائج الانتخابات في جانبها السياسي كشفت كذب قادة هذه الأحزاب من خلال تقاريرهم إلى ديوان ولي الفقيه في إيران عن حجوم وهمية وسيطرتهم على الشارع العراقي.
إن القدرات السياسية لتلك الأحزاب منذ عام 2019 قد انهارت رغم بدائيتها وانغلاقها على المفاهيم الطائفية المقيتة، فتقدمت الحلول العسكرية القمعية، وإشاعة الخوف والرعب بين المواطنين تحت عناوين حواضن دواعش من العرب السنة، لاستكمال إبادتهم وتغيير ديموغرافية مدنهم، والعنصر الجديد هو إخماد الصوت الشيعي العربي المناهض لسياساتهم في محافظات الوسط والجنوب المناهض بقتل وترويع الشباب.
ولأن القيادات السياسية للميليشيات الولائية لا تمتلك الحدّ الأدنى من معايير العمل السياسي، بل تعتبر السياسة خزعبلات الضعفاء، لذلك تلجأ اليوم كرد فعل على الخسارة السياسية إلى حمل البندقية وتجديد مناخ عام 2006 في تفجير مرقد الإمامين علي الهادي وحسن العسكري في سامراء وما تبعه من سلسلة تفجيرات المساجد وقتل الأبرياء واختطاف المئات.
كانت مخاوف الكثير من العراقيين وأهالي ووجهاء ورؤساء عشائر المتضررين من أفعال الميليشيات في محلها، أن يتم إنزال العقاب المسلح على مدنهم وقراهم بعد أن تعذّر تنفيذ خيار الصدام العسكري في بغداد داخل المنطقة الحكومية الخضراء لنصائح داخلية وخارجية. هكذا حصلت مجزرة قريتي “الهواشة ونهر الأمام” في المقدادية بمحافظة ديالى، مزدوجة المصدر تشاركت فيها الميليشيات مع داعش حيث تم قتل الأبرياء العراقيين من الشيعة والسنة لهدف واحد هو استكمال مشروع الهيمنة الإيرانية على العراق.
لقد وضعت أحزاب الميليشيات الولائية حلفاءهم من السياسيين وحكومة الكاظمي الحالم برئاسة جديدة من دون ثمن يقدمه أمام أحد خيارين: إما قيام عراق شيعي إيراني وإما الذهاب إلى الفوضى والحرب الأهلية.
“صحيفة العرب”