ربما كان الشعر إنشاء بلاغيا عن رؤيا فردية باستخدام ما يصطلح عليه الناس بأنه شعر، أي فن مستقل لنوع من أدوات التعبير، عبر قدرة فرد ما، يدعى شاعرا على استخدام هذه الأدوات لصياغة رؤيته ورؤياه الشعرية.
لكن السؤال هو ما هي الرؤية الشعرية في الشعر؟
الرؤية الشعرية هي خلاصة تجربة مركبة.. مركبة من الإلهام (الرؤيا) الذي يقره أرسطو في كتابه «فن الشعر» (في الموروث الإسلامي أن النبي محمدا طلب من حسان بن ثابت أن يهجو قريشا فقال له: اهجهم وروح القدس معك) وإضافة إلى الإلهام الذي يجهل الشاعر مصدره عادة، يظهر الخيال وكأنه الجزء الواضح من الإلهام. ربما كان الخيال الشعري أيضا ثمرة لتصور الواقع، ليس الواقع الحقيقي ولكنه الواقع المتصور، الذي يمد الشعر بصور تبدو متناقضة مع الواقع.
كل ذلك، أعني الإلهام والخيال والرؤية والتجربة تحتاج إلى الأداة الأساسية لتظهر في شعر، إنها تحتاج إلى اللغة، فلا تعبير دون لغة.
في ملحمة گلگامش الشعرية، يهمش الآثاري الأمريكي صموئيل كريمر المشهور بكتبه وبحوثه في السوريات، وكذلك الآثاري العراقي الراحل طه باقر، مترجم الملحمة من البابلية إلى العربية، كثيرا على ترجمة بعض المفردات، وتغير بعضها من السومرية (أصل الملحمة) إلى اللغة البابلية، ويشير إلى اهتمام الآثاريين الأمريكيين والأوروبيين بالمفردات وتغيرها من نسخة إلى أخرى، فلماذا هذا الاهتمام بالمفردة؟ إنه اهتمام بالمعنى، فالشعر يفصح عن معنى، وهذا المعنى، بدوره، يفصح عما أراده الشاعر من التجلي الخاص للرؤيا والتجربة الشعرية، ومثلما تعلن الطبول عن حرب، وتعلن الأجراس عن قداس، والأذان الذي يعلن عن الصلاة تعلن الإيقاعات الشعرية عن مولد القصيدة.
أصبح الأدب وفق فكرة ماركيز، يسافر في عربة الشحن، ورغم أن هذا الزمن ينعت بزمن الرواية، التي أصبحت كتابتها (موضة) إلا أن الأدب كله أصبح شغلا ثانويا للبشر، الذين يسافرون في عربات الدرجة الأولى، ومعظمهم لا يعلمون أن الأدب يسافر خلفهم في عربة الشحن، وإذا كان هذا حال الأدب، فإن ما نعتبره فن الشعر، أصبح يسافر فوق سطح القطار، كما كان الجنود العائدون من الحرب يفعلون، أو ما نشاهده في قطارات الهند، ولذلك فمن الأفضل للشعر ان يسافر على قدميه ليصل برغبته وبقواه الذاتية، فتلك هي الطريقة الفضلى ليراه الناس ويوقفونها للتعرف عليه.
ظهرت في العقود الخمسة الماضية أطروحة تؤكد على أن زمن الشعر قد انتهى، وتسربت هذه الأطروحة إلى الناشرين، الذين يعزفون عن نشر المجموعات الشعرية إذا لم يمولها الشاعر نفسه. هذه فضيحة ثقافية بالطبع حتى في أوروبا التي ما تزال تبيع تذاكر حضور الحفلات الشعرية، كما تفعل مع تذاكر السينما والمسرح والموسيقى. لقد تمت صناعة رأي ضد الشعر، وتبنى قراء الأدب هذا الرأي الذي عززته نوعية ما ينشره (الشعراء) بتمويلهم ليكونوا شعراء ويكسبون عضوية الاتحادات الأدبية، يحضرون نشاطاتها الروتينية المكررة ويتلقون دعوات للمشاركة في مهرجانات تدعى مهرجانات أدبية تكشف بوضوح عن تدهور الشعر والأدب عامة.
في سياق الحديث عن الشعر نجد أن السياب مثلا أو عبد الوهاب البياتي أو صلاح عبد الصبور وغيرهم لم يعودوا مراجع شعرية، ووصل الأمر، من خلال تواصلي مع شعراء شباب، إلى التأكيد على عدم الحاجة لقراءتهم، في ما يطلبون مني أن أرسل لهم كتب شعراء مترجمين، وحين يرسل لي أحدهم ، قصيدة له أو ديوانا، لا أجد تجربة شعرية، وإنما محاكاة للقصيدة المترجمة باعتبارها شعرا عالميا، هذه الظاهرة التي تكشف عن التقليد النمطي، اتسعت باتساع عدد الشعراء والشاعرات. إن ممارسة الشعر هذا بضاعة كاسدة وتثير الشك بأن الشعر فن. ومن المؤسف أن تطور التكنولوجيا يتناسب عكسيا مع تراجع الإبداع، فالمرجعية للحكم لم تعد الحياة الأدبية والمجتمع الثقافي وتقاليده، وإنما الرد الذي يتجرأ على كتابة ما يسميه نصا وليس قصيدة كما يسمي القصة او الرواية سردا ويسمي الروائي السارد.
وبانحسار مستوى التعليم العالي وتدني معاييره، خاصة في العراق على سبيل المثال، فإن الأطروحات الجامعية، التي كانت محصورة على الشعراء الأموات، صارت تكتب عن أصدقاء أو معارف من الجنسين، لم يصدروا سوى كتاب أو كتابين وخلال ستة أشهر، وحدث معي أن قُدم عدد من الأطروحات عن شعري دون ان يكون لدى أصحابها دواويني وبدون مراجع أو مصادر، حتى إن إحدى المتقدمات لدرجة الماجستير لا تعرفني، وإنما سمعت باسمي من أستاذ جامعي، وطلبت مني أن أبعث لها شعري، فرفضت ورجوتها أن تترك الأمر برمته، فيما سألتني أخرى ما إذا كان شعري شعر حب أو سياسة أو فخر أو هجاء،
فهل نكف، بعد ذلك، عن الحديث عن فن الشعر؟
شاعر عراقي
“القدس العربي”