منذ بضعة أيام، وفي كلمته في إطار الاحتفال بالذكرى العاشرة لتأسيس “بيت العائلة المصرية”، تحدث شيخ الأزهر الإمام الأكبر، أحمد الطيب، عن “الديانة الإبراهيمية”، وهاجمها ووصفها بـ”أضغاث الأحلام”، وقد أحيا الإمام الفاضل بذلك جدلا يثار ويخبو منذ أكثر من عام عبر وسائل التواصل الإجتماعي المختلفة.
ولم يقف أمر نقد الديانة الإبراهيمية والتحذير منها عند فضيلة شيخ الأزهر فحسب، بل شاركه فيه أيضا أعضاء أجلاء من الديانة المسيحية، فقد أعلن القمص، بنيامين المحرقي، الأستاذ بالكلية الإكليريكية بالأنبا رويس أيضا، رفضه الدعوة إلى الديانة الإبراهيمية، لأنها – كما وصفها – دعوة مسيسة تحت مظهر مخادع واستغلال الدين.
وقد أعلن الشيخ الطيب رفض الدعوة إلى “الديانة الإبراهيمية الجديدة” وتساءل في خطابه عما إذا كان المقصود من هذه الدعوة هو “تعاون المؤمنين بالأديان على ما بينها من مشتركات وقيم إنسانية نبيلة، أو المقصود صناعة دين جديد، لا لون له ولا طعم ولا رائحة” حسب تعبيره.
وقال الشيخ الطيب إن الدعوة لـ”الإبراهيمية” “تبدو في ظاهر أمرها دعوة للاجتماع الإنساني والقضاء على أسباب النزاعات والصراعات، وهي في الحقيقة دعوة إلى مصادرة حرية الاعتقاد وحرية الإيمان والاختيار”.
ويرى فضيلة الإمام الطيب أن الدعوة إلى توحيد الدين دعوة “أقرب لأضغاث الأحلام منها لإدراك حقائق الأمور وطبائعها”، لأن “اجتماع الخلق على دين واحد أمر مستحيل في العادة التي فطر الله الناس عليها”.
و أضاف فضيلته أن “احترام عقيدة الآخر شيء، والإيمان بها شيء آخر”.
وقد قوبلت كلمة فضيلة الشيخ، أحمد الطيب، وموقفه من الإبراهيمية بإشادات عبر مواقع التواصل الاجتماعي من مغردين ومن شخصيات معروفة، مثل الداعية، عبدالله رشدي، والذي قال إن كلمة الطيب “قتلت فكرة الإبراهيمية في مهدها”.
بينما قال آخرون إنه “لا مانع من تحقق هذه الدعوة إذا كانت ستنهي القتال والصراعات وتحل السلام” كما هو معلن من أهدافها.
فما هي ياترى قصة الديانة الإبراهيمية الجديدة كما يطلق عليها البعض؟ وهل هي فعلا خطرة على باقي الأديان كما يظنون؟
ليس هناك إعلان رسمي حتى الآن لقيام ما يعرف بـ”الديانة الإبراهيمية الجديدة”، إذ ليس لها أركان أو أتباع.
وإنما هي مشروع فكري بدأ الحديث عنه منذ فترة. وتأسست الفكرة على وجود عامل مشترك أو عوامل مشتركة بين الديانات الثلاث، الإسلام والمسيحية واليهودية، باعتبارها أديانا إبراهيمية، نسبة إلى النبي إبراهيم عليه السلام.
فالهدف المعلن للمشروع كما يبدوا حتى الآن، هو “التركيز على المشترك بين الديانات والتغاضي عن ما يمكن أن يسبب نزاعات وقتالا بين الشعوب”.
وأستطيع أن أتفهم موقف فضيلة الشيخ، أحمد الطيب، وغيره من رجال الدين، ولكن من المهم إيضاح نقطة هامة جدا في هذا المقام لأنها- أي هذه النقطة- قد تغير مفاهيم كثيرة عن ما يسميه البعض بالديانة الإبراهيمية.
فحقيقة الأمر أن التعبير أو المصطلح الذي تم استخدامه لوصف هذه الفكرة، وكان باللغة الإنجليزية هو تعبير “إبراهاميك فيث”، وليس “إبراهاميك ريليجن”، وشتان بين التعبيرين، فالأول منهما وهو “فيث”، يعني عقيدة أو ملة إبراهيم، أما التعبير الآخر- والذي لم يستخدمه إطلاقا أصحاب الفكرة- هو تعبير “ريليجن”، ويعني “الدين” بأركان وعقيدة ومنهج متكامل.
فالصراع المحتدم الآن، ليس له في الحقيقة أي أساس لأن تعبير “فيث”، لا يعني ديانة على الإطلاق بل يعني ملة!
ولذا فلنا هنا وقفة أمام ملة إبراهيم عليه السلام أبو الأنبياء.
فملة إبراهيم كما ذكرها القرآن الكريم هي ملة العقل والوصول إلى الله من خلال الفكر.
فنرى في قصة إبراهيم، على سبيل المثال لا الحصر، أنه وصل إلى الله بفكره وباستخدام العقل ـ حتى وإن أضله في وقت من الأوقات- فعبد كوكبا في مرحلة ما، ثم عبد القمر، ثم عبد الشمس، ثم وصل بعد ذلك لحقيقة الإله الواحد، أي أن إبراهيم مر بمراحل من الشك قبل أن يصل إلى الإيمان. فكما جاء في القرآن في سورة الأنعام أية 76-79 لوصف لحظات الشك قبل الوصول إلى الحقيقة في عقل إبراهيم عليه السلام:
“فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ – فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ – فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ”
وملة إبراهيم هي ملة التأمل في ملكوت السماوات والأرض.
“وَكَذَٰلِكَ نُرِىٓ إِبْرَٰهِيمَ مَلَكُوتَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ ٱلْمُوقِنِينَ” (سورة الأنعآم آية 75).
فأنا في هذه اللحظات أتخيل إبراهيم عليه السلام، وهو يتأمل في جمال أجنحة الفراشات، وفي روعة ريش الطواويس، وفي جمال قواقع البحار، وفي عظمة خلق الكون، وأجرامه، وفي رقة ألورود والرياحين. فكلها من ملكوت السموات والأرض!
وملة إبراهيم هي ملة الرد على الإسائة بالإحسان.
فنراه – أي نرى خليل الرحمن إبراهيم – يرد على من يريد الاعتداء عليه ورجمه، وكان أبوه، بقوله المشهود “سلام عليك سأستغفر لك ربي”: (قَالَ أَرَاغِبٌ أَنتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ ۖ لَئِن لَّمْ تَنتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ ۖ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ ۖ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي ۖ إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا” سورة مريم آية 46 – 47.
وملة إبراهيم هي ملة المناقشة بالحجة والبرهان، لا بالغلظة والإكراه. فقد كان العقل والمنطق ـ لا النقل والنص ـ هما أساس ملة إبراهيم، فنراه يحاجّ قومه في طفولته.
“قَالُوا أَأَنتَ فَعَلْتَ هَٰذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَٰذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِن كَانُوا يَنطِقُونَ فَرَجَعُوا إِلَىٰ أَنفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنتُمُ الظَّالِمُونَ ثُمَّ نُكِسُوا عَلَىٰ رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَٰؤُلَاءِ يَنطِقُونَ” سورة الأنبياء آية 62-65.
وبعد ذلك وحينما أصبح إبراهيم رجلا كبيرا نراه يحاجّ الحاكم، حين ذاك، والمسمى بالنمرود، بالعقل والمنطق ومن دون رفع سيف، أو تهديد بسفك دماء.
“أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ ۖ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ ۗ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ” سورة البقرة آية 258.
وملة إبراهيم هي ملة الثورة على فكر “السلف”، ورفض الانصياع الأعمى له، فلو اتبع إبراهيم “السلف” حينذاك، لأصبح عابدا للأوثان!
وحينما ذكرت هنا ملة إبراهيم ـ وما أداراكم ما ملة إبراهيم ـ فهي الملة التي أمر الله سبحانه وتعالى نبيه الكريم محمدا أن يتبعها فقال له بالحرف الواحد وبدون مواربة:
” ثُمَّ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ أَنِ ٱتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَٰهِيمَ حَنِيفًا” (سورة النحل آية 123).
بل لقد تخطى الأمر ذلك فقال الرحمن عن ملة إبراهيم.
” وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَٰهِۦمَ إِلَّا مَن سَفِهَ نَفْسَهُۥ ۚ وَلَقَدِ ٱصْطَفَيْنَٰهُ فِى ٱلدُّنْيَا ۖ وَإِنَّهُۥ فِى ٱلْءَاخِرَةِ لَمِنَ ٱلصَّٰلِحِينَ ” (سورة البقرة آية 130). ”
وقال أيضاً عن ملة إبراهيم
” قُلْ صَدَقَ ٱللَّهُ ۗ فَٱتَّبِعُواْ مِلَّةَ إِبْرَٰهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ ٱلْمُشْرِكِينَ ” (سورة آل عمران آية 95).
وبإتباع هذه الملة أصبح إبراهيم خليل الرحمن (وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا) وجعله الله سبحانه وتعالى إماما للناس كافة، وهي كلمة لم يقلها في سواه (إِذِ ٱبْتَلَىٰٓ إِبْرَٰهِۦمَ رَبُّهُۥ بِكَلِمَٰتٍۢ فَأَتَمَّهُنَّ ۖ قَالَ إِنِّى جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا ۖ ۖ (سورة البقرة 124).
فهل هناك إعتراض الآن على ملة إبراهيم أو “إبراهيميك فيث”؟ وهي الملة التي جعلها الله ملة العقل وأيقونة الفكر، وملة لا يرغب عنها أو يرفضها إلا من سفه نفسه، كما قال القرآن في محكم آياته، ” وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَٰهِۦمَ إِلَّا مَن سَفِهَ نَفْسَهُۥ ۚ وَلَقَدِ ٱصْطَفَيْنَٰهُ فِى ٱلدُّنْيَا ۖ وَإِنَّهُۥ فِى ٱلْءَاخِرَةِ لَمِنَ ٱلصَّٰلِحِينَ ” (سورة البقرة آية 130).
“الحرة”