بعد تغيّر مفهوم العمل ودمقرطة الثقافة، ظهر نظام جديد من (التفاهة) جعل «المهنة مجرد وظيفة» وصار «التافه» يتعامل معها كوسيلة للبقاء.
لفظ التفاهة Mediocratie كان يُستخدم للتعبير عن قوة الطبقة الوسطى، لكنه فقد معناه الأصلي، وذهب الفيلسوف الكندي آلان دونو Alain Deneeauit في كتابه «الميديوقراطية أو سلطة التفاهة» 2015 إلى أن 80% من الأنظمة معرّضة لمخاطر نظام استهلاك التافهين، وبذا تقود التفاهة ـ إلى تسليم ملكة الحكم لنماذج تحكّمية، وإلى سلطات موهومة أو متخيّلة، وثمة أشخاص لا يقلّون تفاهة يدعمون التافه، الذي يتظاهر في التميّز الكاذب، حيث يرتبطون به، ولهم مصلحة في استمراره.
أمّا المفكّرون والمثقفون الذين لا يشاركون التافه ويرفضونه، سوف يتم نبذهم ومحاربتهم بأساليب تقوم على التهميش والتحجيم والإقصاء.
لكن مَنْ هو التافه ـ medlocre؟ أهو الداعية أم السفسطائي أم الانتهازي أم الوصولي أم المثقف المريض المصاب بـ(مرض الطفولة اليساري)؟ إذن هل التافه متوسط الذكاء؟ وإن كان كذلك، فهل هو غير المتفوق أو غير المتدنّي؟ وقبل ذلك؛ ما التفاهة؟
يرى آلان دونو إن «التفاهة صارت تقنية من تقنيات السياسة، ومن خلال هذه السياسة تقوم السلطة بإضعاف الجديّة والمشروعية على أفعال التافهين». ومن الطبيعي أن يتهافت التافهون على السلطة السياسية، أو السلطة الثقافية، كما يتهافت الذباب على الجثث التي تزرق وتجيف، وهم يدركون بأنهم مجرد مسوخ لإملاء هذا المنصب، أو ذاك الموقع بالتفاهة، كما أنهم كائنات لزجة دبقة سمجة، تتعلق بذيول السلطة، وهم يعلمون أنهم أوهن من اليرقات أو الحشرات. ومن الطبيعي أيضاً، أن تظهر التفاهة لخدمة أيديولوجيات شمولية انهارت في لحظات تاريخية، حتى أصبحت مأسورة بالحنين المرضي إلى حيوات خاوية وأزمنة ميتة، ومع هذا الانهيار انهار آخر سياج يحمي المثقف من الابتذال والسطحية والتفاهة.
ومع (دمقرطة السياسة) و(دمقرطة الثقافة) أفرزت «الحياة السائلة» منتجات ثقافية بالغة التفاهة»؛ الأمر الذي جعل الكثير يتوجّس خيفة من الانهيار الاجتماعي، وفقدان الهوية، وتفكك النظام الثقافي بـ(خطاب الكراهية) حتى أخذت التفاهة دور (الشعبوية) التي تهدّد الآن بلادنا، والعالم كلّه. وقد رأى آلان دونو «أننا نعيش فساد الديمقراطية ـ التام، وأنه يتوجّب إعادة تسمية النظام السياسي: (mediocratie) بدلاً من
(democratie). كما رأى دونو أن التفاهة على مستوى السلطة تمنع بروز الأداء المميّز المستقيم، بما في ذلك استبدال السياسة بالحاكمية والإرادة الشعبية بـ(المقبولية الاجتماعية) والمواطن بـ»الشريك» والمواطنة بـ»الرعاية» فصار الشأن العام «تقنية وإدارة» وليس منظومة مبادئ ومفاهيم. (ينظر: منى فياض / التفاهة تتحكم بمصير العالم والدولة).
كما أن التفاهة على مستوى الثقافة، تقوم بإفراغ الثقافة من فواعل أنساقها الثقافية، بما في ذلك التمثيل الزائف للمثقفين بالنيابة.
كما أن التفاهة على مستوى الثقافة، تقوم بإفراغ الثقافة من فواعل أنساقها الثقافية، بما في ذلك التمثيل الزائف للمثقفين بالنيابة.
إذن، السلطة أو التسلط أو التمثيل ـ صار بين أيدي أشخاص «متوسطين، يتسلقون سلّم التفاهة عن طريق الدخول في اللعبة» أي لعبة التفاهة.
لكن هل من سبيل للخروج من نظام التفاهة؟ وقبل ذلك، هل من معيار لتحديد التافه؟
إن التافه ـ medlocre: رديء، دنيء، «سيئ القدرات» كما أنه «منافق عليم اللسان» يوازي «الخبير» الذي يمتلك الاستعداد «الفطري والقصدي» لأن يبيع عقله للسلطة (قراءة منهجية لكتاب «نظام التفاهة « / صبري محمد خليل) وأن يدخل السمسرة في أي مزاد سياسي أو ثقافي، وتحديدا مَنْ يتخذ من الأدب والثقافة حرفة يتعيّش منها، ويتعاظم بها. وقد اختزل «التعبير النبوي» التفاهة أو حكم التافهين بـ»الرويبضة» فقد سأل الصحابة الرسول الكريم: «ما الرويبضة يا رسول الله؟ قال: الرجل التافه الذي يتكلم بأمر العامة». أما ما يسميه آلان دونو بـ»دكتاتورية التافهين» فهي «الميديوقراطية أو سلطة التفاهة أو حكم التافهين». وقد سُئِل الروائي والشاعر الإسباني خوسي مانويل كبايرو، الحائز جائزة سرفانتس: هل نسير إلى الهاوية والابتذال؟ فأجاب: «يبدو لي ذلك، فالابتذال أصبح من الآفات التي نعاني منها، بالإضافة إلى ثقافة القطيع، الدوغمائية، تمييع العادات، الخضوع، الخنوع، وهناك مَن يتمرّد على ذلك» (ينظر: حوار صحافي مع الأديب خوسي مانويل كبايرو/ عبد اللطيف شهيد ).
ولفهم الشر السياسي، الذي كرسته الأنظمة التوليتارية في القرن العشرين، قلبت حنّا آردنت H. Arendt مفهوم تفاهة الشر La banalite du mal بديلاً لمفهوم الجذرية الكانطي laradicalite. (ينظر: سؤال الشر بين الجذرية والتفاهة من كانط إلى حنا آردنت / العلوي رشيد ).
وقد عرّفت حنّا آردنت الإنسان كحيوان سياسي، وإن لم يكن كذلك، اعتبر أسمى من البشر (إلهاً) أو عُدَّ كائناً سافلاً (حيواناً) وإنسان هوبز كائن قاتل وعنيف، ومنجذب للقوة والحرب «حرب الكل ضد الكل» وإنسان ميكافيلي يتخذ من صورة الأمير الذي يجب عليه أن يتصرّف كالحيوان، وأن يقلّد الأسد والثعلب معاً. وعندما أُرسِلت حنّا آردنت لتغطية محاكمة النازي كارل أدولف آيخمان Karl Adolf Eichmann، استمدّت منه مفهوماً جديداً هو «تفاهة الشر» بديلاً للمفهوم الكانطي «الشر الجذري» وإزاء هذين المفهومين: «كيف يكون الشر تافهاً؟» (ينظر: حنا آردنت / الإنسان في مواجهة تفاهة الشر/ إبراهيم مجيديلة / مجلة متفكّرون / ع ( 9 ) 2016). ويؤكد ريتشارد برينشتاين، أن الشر الجذري وتفاهة الشر ليسا إلاّ لحظتين لسيرورة واحدة يمكن تسميتها بديالكتيك الشر» (ينظر: حنّا آردنت / الإنسان في مواجهة الشر/ مرجع سابق). وبذا يمكن أن يكون آيخمان ـ الأنموذج الأكثر دلالة على أي تافه شرير من التافهين الذين يشغلون هذا الحيّز أو ذاك بالتفاهة السياسية أو الثقافية.
كاتب من العراق
“القدس العربي”