توحي التطورات المتلاحقة على الأرض السورية في مناطق نفوذ قوات الحكومة وحليفتيها روسيا وإيران، بأن دمشق تنتهج حالياً «استراتيجية» لا تمانعها موسكو، تتضمن «الحفاظ على العلاقة مع إيران، ولكن مع تخفيف دورها» في جنوب البلاد ودمشق ومحيطها، ودفعه باتجاه شرق وشمال شرقي البلاد للضغط على الوجود الأميركي هناك، وذلك بهدف «طمأنة الجانب العربي».
وبات من غير الخافي على أحد اصطفاف طهران بقوة إلى جانب دمشق، منذ بداية اندلاع الحراك السلمي في سوريا عام 2011، وذلك بناء على «العلاقة الاستراتيجية» القائمة بين البلدين، منذ أواخر سبعينات القرن الماضي. كما من غير الخافي مساهمتها مع روسيا لاحقاً بعدم سقوط النظام عبر تدخلها العسكري المباشر في الحرب من خلال ميليشيات محلية وأجنبية تابعة لها، زاد عددها على 50 فصيلاً وتجاوز عدد مسلحيها 60 ألفاً انتشروا في معظم الأراضي السورية لتنفيذ استراتيجية طهران.
خلال تلك السنوات، علمت إيران، وبشكل مكثف، على ترسيخ وتقوية وجودها ونفوذها الاجتماعي والسياسي والعسكري في المناطق التي تنتشر فيها خاصة بدمشق (الأحياء القديمة) وريفها (السيدة زينب وصولاً إلى مطار دمشق الدولي) وكذلك في مناطق جنوب البلاد (درعا والقنيطرة) والوسطى (حمص وحماة) والشمالية (حلب) والغربية (اللاذقية) والشرقية (دير الزور)، في مقابل رفض عربي – أميركي قوي لهذا الوجود تُرجم بسيطرة أميركا عسكرياً على أجزاء من شمال وشرق البلاد، وإقامة كثير من القواعد العسكرية أبرزها «التنف» لكبح مشروعات إيران في سوريا، وأبرزها إعادة إحياء الطريق البري «طهران – بغداد – دمشق – بيروت».
لكن مع تكثيف روسيا لمساعيها مؤخراً لتحقيق انفتاح دولي على دمشق وإعادتها إلى «الحضن العربي»، بدأت تظهر على الأرض تطورات تحمل مؤشرات على تراجع الوجود العلني الإيراني وأذرعه في كثير من المناطق التي كان يُوجَد فيها، كما هو الحال في محافظة درعا جنوب البلاد، حيث أجرت دمشق برعاية روسية ما تسميه «تسويات» واسعة في المحافظة، أفضت إلى عودة سيطرة الحكومة على كامل المحافظة، وانسحاب «الفرقة الرابعة» التي يقودها اللواء ماهر، شقيق الرئيس السوري بشار الأسد، ذراع إيران القوية هناك.
ويلاحظ كثيرون تراجع مشاهد الوجود الإيراني وأذرعه في دمشق وأحيائها، خاصة القديمة منها، ومحاصرته في «السيدة زينب» جنوب دمشق، ومنع تمدده شمالاً باتجاه مناطق يلدا وبييلا وبيت سحم القريبة من دمشق من قبل روسيا، وأزالت قوات «الفرقة الرابعة» بعض حواجزها في ريف دمشق الغربي وحلت محلها نقاط أمنية، وذلك بعد تواصل الغارات الإسرائيلية على مناطقه وتكثيفها مؤخراً، مستهدفة مقرات إيرانية.
وفي المقابل، تفيد الأنباء الواردة من شرق البلاد، بتعزيز إيران وميليشياتها لوجودها ونفوذها في البادية الشرقية، حيث وصلت تعزيزات لميليشيات «حزب الله» اللبناني إلى محيط منطقة السخنة شرق حمص وسط البادية، رفعت عليها الميليشيا العلم السوري لتجنب استهداف عتادها وآلياتها العسكرية من قبل الطيران التحالف الدولي أو الإسرائيلي على حد سواء، بعد يومين من بدء الحرس الثوري الإيراني استخدامه لطائرة استطلاع من نوع «إرنا»، في بادية حمص الشرقية، بعدما وصلت، الأسبوع الماضي، إلى مطار التيفور العسكري.
في أقصى شمال شرقي البلاد، تحدثت الأنباء عن دفع «الحرس» الإيراني مؤخراً بعدة شحنات أسلحة وذخائر إلى مواقعها في مدينة القامشلي وتحت أنظار القوات الروسية والتحالف الدولي المشرف على المنطقة، منها شحنة تضمنت نحو 90 طناً من الأسلحة الخفيفة والمتوسطة وذخائرها، بالإضافة لبعض حشوات وقذائف الهاون من عيار 80 و120 ملم تم نقلها من مطار القامشلي إلى فوج طرطب الخاضع لسيطرة مشتركة بين «الحرس الثوري» والفرقة الرابعة.
ووفق تقرير لشبكة «عين الفرات» التي تعنى بنقل أخبار المنطقة الشرقية تسعى إيران إلى البقاء في سوريا لفترة طويلة، من خلال المشروعات الاجتماعية والسياسية والعسكرية في عدة محافظات، تبدأ من الحدود العراقية – السورية، وتنتهي عند الحدود السورية – اللبنانية.
ويشير التقرير إلى أن أهم الأعمال العسكرية الهادفة إلى إبقاء القوات الإيرانية أطول فترة ممكنة في سوريا، هي «قاعدة الإمام علي» الواقعة عند الجهة الجنوبية لمدينة البوكمال باتجاه البادية والتابعة لمحافظة دير الزور، التي تُعد أكبر قاعدة عسكرية خارج الحدود الإيرانية.
ورغم تعرض القاعدة لعدد كبير من الغارات والضربات الصاروخية من قبل إسرائيل والتحالف الدولي في سوريا، فإن هذه الضربات لم تؤثر بشكل كبير على تجهيزات القاعدة لأنها محصنة بمتاريس تحت الأرض، وفق ما جاء في التقرير.
وفي مؤشر على تزايد تحشيد إيران وميليشياتها في قواعدها شرق سوريا، تكثفت مؤخراً الاستهدافات التي تطال القواعد الأميركية في تلك المناطق، وكذلك تزايدت غارات التحالف الدولي والإسرائيلية التي تستهدف القواعد الإيرانية هناك.
وبحسب مراقبين مطلعين تحدثوا لـ«الشرق الأوسط»، فإن «دمشق ومنذ منتصف سبتمبر (أيلول) الماضي، أعادت توزيع أوراقها، وقررت المضي قدماً في استراتيجية من شعبتين: تعزيز العلاقة مع إيران لمقارعة الأميركيين والإسرائيليين، الذين يواصلون الضغط على النظام (السوري) من خلال الضربات العسكرية الجوية الإسرائيلية، والوجود الأميركي العسكري في شرق سوريا، وتعزيز العلاقات مع العرب لمواجهة الأتراك وفتح قنوات اتصال من خلالهم مع الأوروبيين والأميركيين».
وذكرت المصادر أن «توزيع الأدوار الجديد ضمن استراتيجية دمشق، اقتضى تطوير الصلات مع دول عربية من دون إغضاب روسيا، وإعادة الأمور إلى سياقها مع الإيرانيين عبر إرسال وزير الخارجية فيصل المقداد ونائبه بمهمة عاجلة إلى طهران، للتوافق على الخطوط العريضة للتوجه السوري الجديد، بما في ذلك دعوة الرئيس الإيراني رئيسي لزيارة العاصمة السورية دمشق».
وأشارت المصادر إلى أن «طمأنة تضمنت تخفيف الدور الإيراني في الجنوب، وإعادة توزيعه باتجاه الشرق والشمال الشرقي للضغط على الأميركيين، وأن روسيا لا تمانع هذا التوجه».
“الشرق الأوسط”