يبدو المشهد السياسي الاسرائيلي، من منظور معظم الخطابات السياسية العربية السائدة، دليل عدم استقرار او نتاج ازمة وربما كناية عن تفكك أو انهيار! هكذا يبدو لهذه الخطابات سقوط ايهود اولمرت، رئيس الحكومة الاسرائيلية في قيادة حزب كاديما، واخفاق تسيبي ليفني، زعيمة الحزب الجديدة (بعد شارون وأولمرت)، في تشكيل ائتلاف حكومي جديد. وهكذا يتم تفسير التوجه نحو انتخابات مبكرة!
المفارقة ان دليل انهيار السياسة الاسرائيلية هو بالضبط دليل افلاس السياسة العربية ومواتها! فالسياسة الاسرائيلية، لحوالي خمسة ملايين ونصف اسرائيلي مؤطرة بحوالي 12 حزباً، في الكنيست، يمثلون مختلف التيارات والأهواء السياسية والايديولوجية، وثمة 80 بالمئة من اصحاب حق الاقتراع الاسرائيليين يشاركون في الانتخابات، وهؤلاء لا يتعبون ولا يملون من الذهاب لاجراء الانتخابات التشريعية كل أربع سنوات على الأكثر (وليس على الأقل!) لاختيار ممثليهم في الكنيست.
الأهم من كل ذلك، ان طريقة ادارة السياسة في اسرائيل ترتكز على الفصل بين السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية، وان الانتخابات فيها تتم بالطريقة النسبية، بحيث تتمثل كل القطاعات او الجماعات، مهما كان حجمها، في الكنيست (البرلمان). وأن نظامها السياسي يرتكز على تداول السلطة، وان ثمة توافقاً على الوسائل الديموقراطية، والأحتكام لصناديق الاقتراع، لحل القضايا الخلافية؛ وهذه الأمور كلها مفتقدة في الحياة السياسية العربية اجمالاً.
وعلى خلاف تلك النظرة السائدة، السطحية والمتسرعة، فانه يمكن اعتبار التغيرات والتحولات في السياسة الاسرائيلية، شكلاً من اشكال الحراك السياسي الداخلي، ومحاولة لتكييف اسرائيل مع التوازنات الداخلية الجديدة فيها، ونوعاً من التساوق مع التحولات السياسية الدولية والاقليمية.
وعلى اية حال، فان الحياة السياسية في اسرائيل (منذ قيامها) كانت جد متحركة ومتقلبة، وهي تعكس المزاج السياسي القلق والمتقلب للاسرائيليين، والذي ينزاح من اليمين الى اليسار وبالعكس، ومن تأييد هذا الحزب أو هذا الزعيم الى غيره!
لكن ما ينبغي تأكيده هنا ان عملية التسوية بالذات، ومنذ انطلاقها في مطلع التسعينيات، وعلى رغم كل الأجحافات المتمثلة فيها بالنسبة للفلسطينيين، هي التي ادخلت اسرائيل في حال من الأزمة المستعصية، التي تطال السياسة والمجتمع، الى درجة باتت معها هذه العملية بمثابة المحرك والمحرض والعنوان الأبرز لمجمل الخلافات والانشقاقات الاسرائيلية، الكثيرة والمتنوعة. وفي ذلك بات الخلاف بين العلمانيين والمتدينين، أو بين الغربيين والشرقيين، او بين اليسار واليمين، يتعزز أو يتغطى، الى حد ما، بالموقف من عملية التسوية. وتفسير هذا الامر ان عملية التسوية مع الفلسطينيين، من وجهة نظر الاسرائيليين، ليست مجرد مسألة خارجية، وهي لا تقتصر على الانسحاب من اراض، فقط، بل انها تمس صميم حياتهم، ومبرر وجودهم، وتطال تعريفهم لهويتهم ولدورهم في المنطقة، ولحدودهم السياسية والجغرافية؛ ومن هنا ينبع مصدر التعقيد في التسوية الفلسطينية ـ الاسرائيلية.
وبهذا المعنى ايضاً فان عملية التسوية، على علاتها وثغراتها، ساهمت في تعزيز الاضطراب في النظام السياسي الاسرائيلي (على مستوى الحكومة والأحزاب ومزاج الرأي العام)، هكذا شهدت اسرائيل، منذ تلك الفترة، تسارعاً في انهيار حكوماتها، كما شهدت نشوء احزاب جديدة واختفاء احزاب قديمة، مع حصول تغيرات في المزاج السياسي الاسرائيلي من اليسار الى اليمين، (وبالعكس) ومن الاعتدال الى التطرف (وبالعكس). ففي تلك الفترة، مثلاً، مر على اسرائيل ستة من رؤساء الحكومات (شامير ورابين وبيريز ونتنياهو وباراك وشارون وأولمرت). واللافت انه ولا واحد من هؤلاء استكمل ولايته الى نهايتها (ما عدا شامير). فقد قتل رابين، في سابقة فريدة من نوعها في اسرائيل، ولجأ كل من بيريز ونتنياهو وباراك وأولمرت الى تقريب موعد الانتخابات للخروج من الأزمات السياسية، التي تعصف باسرائيل على خلفية عملية التسوية.
وفي هذه المرحلة، وبعد تسلم ليفني زعامة حزب كاديما، واخفاقها في تشكيل حكومة جديدة، بسبب رفضها الانصياع لاملاءات الأحزاب الأخرى، لا سيما حزب شاس في مسألتي التقديمات الاجتماعية (وبالأحرى المالية) والتسوية (وبشكل خاص ما يتعلق بملف القدس)، تقف اسرائيل مجدداً امام استحقاق انتخابات جديدة، لاعادة تعيين الاصطفافات وتوضيح الانتماءات والتوازنات السياسية الجديدة، والاعداد لليوم التالي.
هكذا فان ما يخفف من طابع الأزمة السياسية في اسرائيل طبيعة نظامها التعددي والتداولي، والاحتكام لصناديق الاقتراع، والتوافق على حل الخلافات بالطرق الديموقراطية. فهذه العوامل كلها تساهم في تمكين اسرائيل من التحكم بادارة ازماتها، وربما تصديرها للخارج، من دون ان ينفي كل ذلك حقيقة وجود ازمة سياسية نابعة من طبيعة الوجود الاشكالي لاسرائيل، باعتبارها دولة يهودية استيطانية استعمارية.
بالمقابل فان حال السياسة العربية يفيد بغيبوبتها وبالأحرى مواتها، بسبب هيمنة السلطة والتسلط (في المعارضة او في الحكم)، فالحياة الحزبية (ان وجدت) هي مجرد ديكور (على الأغلب)، وهي تعاني من الجمود والترهل، منذ خمسة عقود، اما الحياة البرلمانية فليست افضل حالاً، ونسبة المشاركة في الانتخابات (حيثما تحدث) جد متدنية، والأهم من كل ذلك ان ثمة اغتراباً في علاقة الشعب بالسلطة كما بالعكس، وثمة غياباً شعبياً عن السياسة بمعناها الواسع.
ومشكلة السياسة العربية الراكدة انها تنظر الى الأمور من منظارها هي، وليس من منظار الآخر! فهي بنظر نفسها في غاية العافية، وعلى ما يرام، طالما انها »صامدة«، ببقاء الزعماء او الرؤساء أو الأمناء العامين في مناصبهم، وطالما ان الأحوال الحزبية مستمرة رتيبة وهادئة لا يشوبها اي »تعكير»، بمعنى التغيير او حتى التطوير.
وفي واقع كهذا بديهي ان لا تفهم السياسة العربية الجامدة ماهية التغيرات في الخريطة السياسية الاسرائيلية، وضمنها تغير رؤساء الحكومات وقادة الأحزاب والتوجه نحو الانتخابات المبكرة، فهذه المصطلحات تكاد تكون غير موجودة في السياسة العربية السائدة، وربما تعتبر مجرد هرطقة او خروج عن المألوف.
"المستقبل"