الأزمة المالية التي تسود العالم اليوم لن تنهي عصر الرأسمالية. هذا ما حاولت أن أدلل عليه في أولى المقالات الثلاث. ولكن هذه الأزمة لابد أن تضع حداً للرأسمالية مطلقة اليدين (أو الرأسمالية المتوحشة كما سماها البعض). هذا هو ما زعمته في المقالة الثانية. أما اليوم فسأحاول أن أبين أن من الممكن جدا أن تعود الرأسمالية المطلقة أو المتوحشة من جديد، في وقت ما في المستقبل. على أي أساس ابني هذا الزعم؟
ليس من الخطأ القول بأن النظام الرأسمالي يبلغ الآن من العمر نحو خمسمئة عام. فقد نشأ هذا النظام في أعقاب أفول وتحلل النظام الإقطاعي (الذي ساد أوروبا نحو ألف عام) وفي بداية ما عرف بعصر النهضة الأوروبية.
وتسمية هذا النظام «بالرأسمالي» لها أساس وجيه للغاية، وهو أن النمو الاقتصادي (أي نمو الثروة والدخل)، في ظل هذا النظام، يعتمد أساسا على «رأس المال»، بعكس النظام الإقطاعي الذي يعتمد على الأرض الزراعية.
ورأس المال هو ذلك الجزء الذي يقتطع من الدخل، فلا ينفق على الاستهلاك، بل يدخر ويستثمر من اجل تحقيق الربح.
ولكن «رأس المال» هذا، كان خلال القرنين الأول والثاني من عمر الرأسمالية، يستثمر أساساً في التجارة، فكانت التجارة هي المصدر الأساسي للربح، ولنمو الدخل والثروة، طوال القرنين السادس عشر والسابع عشر، ومن ثم يسمي بعض المؤرخين الاقتصاديين هذا الجزء من عمر الرأسمالية (الرأسمالية التجارية) تمييزاً له عما حدث بعد هذا من اعتماد النمو الاقتصادي، أكثر فأكثر، على الاستثمار في الصناعة، وبهذا حلت الرأسمالية الصناعية محل القرن الثامن عشر محل الرأسمالية التجارية، أو طغت عليها.
كانت الصناعة تنمو بسرعة في أوربا منذ أوائل القرن الثامن عشر ولكنها شهدت نموا بالغ السرعة مع حلول ما عرف «بالثورة الصناعية، في العقدين الأخيرين من ذلك القرن، وطوال القرن التاسع عشر. حدثت هذه الثورة الصناعية أولا في بريطانيا، ثم في فرنسا وألمانيا والولايات المتحدة، ثم في سائر دول أوروبا الغربية واليابان.
ولكن هذا النمو في الدخل والثروة، ابتداء من عصر الثورة الصناعية (أي طوال ما يقرب من قرنين ونصف القرن)، لم يكن يحدث دائماً بنفس السرعة، بل كان يتسارع ويتباطأ ثم يتسارع من جديد، على حسب ما إذا كانت الفترة تشهد تقدما تكنولوجيا كبيراً أو تباطؤاً في هذا التقدم. كانت الثورة الصناعية الأولى فترة تقدم تكنولوجي باهر، يعتبر رمزه استخدام البخار كمصدر للطاقة، ومن ثم اختراع الآلة البخارية التي حركت الآلات والقطارات والسفن البخارية.
ثم تباطأ النمو حتى دخلت أوروبا في عصر الثورة الصناعية الثانية، في الربع الأخير من القرن التاسع عشر، وكانت أهم مظاهرها استخدام الطاقة الكهربائية واختراع السيارة وتطبيق نظم جديدة في الإنتاج أشهرها «خط التجميع» (Assembly Line) الذي رفع بشدة من إنتاجية العمال ومن ثم خفض بشدة من نفقات الإنتاج. تلت ذلك فترة من التباطؤ في التقدم التكنولوجي في أعقاب الحرب العالمية الأولى وخلال الثلاثينات.
ثم عاد التقدم التكنولوجي السريع من جديد خلال الحرب العالمية الثانية (التي كانت نفسها من أهم حوافز هذا التقدم)، وخلال سنوات إعادة التعمير في سنوات ما بعد الحرب. ثم تباطأ التقدم التكنولوجي والنمو الاقتصادي من جديد بين منتصف الستينات ومنتصف السبعينات.
ولكن أعقب ذلك الثورة المعروفة بثورة المعلومات والاتصالات التي خلقت فرصا جديدة هائلة لتحقيق معدلات عالية للربح، باستخدام هذه الثورة التكنولوجية في تطوير سلع الاستهلاك والخدمات وتقريب أجزاء العالم بعضها من بعض. ولكن هذه الثورة التكنولوجية الجديدة أصابها بدورها الأفول بعد نحو ربع قرن من النمو الاقتصادي السريع ودخل العالم الرأسمالي في مرحلة جديدة، منذ أواخر التسعينات، من النمو البطيء أدى في النهاية الى الأزمة العالمية الراهنة.
هذا التلخيص السريع، والمبسط جدا، لموجات التقدم السريع ثم التباطؤ في النمو الاقتصادي والتكنولوجي، قد يغري بمحاولة اكتشاف موجات مصاحبة لها من حيث إطلاق حرية الرأسماليين مما فرضته الدولة عليهم من قيود في مرحلة سابقة، ثم إعادة فرض القيود عليهم من جديد أو زيادة هذه القيود.
والتعميم الذي سأغامر بطرحه هنا هو الآتي: في فترات التقدم التكنولوجي السريع، حيث تظهر فرص مغرية للغاية للاستثمار بتطبيق الاكتشافات التكنولوجية الجديدة في إنتاج سلع وخدمات من نوع جديد أو تطويرها وتحسينها وتخفيض نفقة إنتاجها، ينجح الرأسماليون في التحرر من قبضة الدولة فتنخفض القيود الحكومية المفروضة عليهم الى الحد الأدنى.
وفى هذه الفترة قد يعاني الفقراء ومحدودو الدخل من هذه الحرية الزائدة التي يتمتع بها الرأسماليون، ومن تراخى قبضة الدولة عليهم. فإذا حلت بعد ذلك فترة بطيئة النمو وبطيئة التقدم التكنولوجي، ودخلت الرأسمالية بذلك في أزمة، اضطرت الحكومة الى التدخل لحماية الضعفاء اقتصاديا، ولانتشال الرأسماليين أنفسهم من أزمتهم بزيادة حجم إنفاقها وتشجيع الناس على مزيد من الاستهلاك.
هكذا نرى أن عصر الثورة الصناعية الأولى كان عصر تراخي قبضة الدولة على الاقتصاد، ثم زاد التدخل من جانب الدولة في الفترة الفاصلة بين الثورتين الصناعية الأولى والثانية، ثم أخذت قبضة الدولة في التراخي من جديد إبان الثورة الصناعية الثانية، ثم عادت الدولة الى التدخل الشديد في الثلاثينات والأربعينات.
عادت الدعوة الى إطلاق حرية الرأسماليين والتقليل من تدخل الدولة أثناء التقدم الاقتصادي والتكنولوجي السريع في الخمسينات وحتى منتصف الستينات، ثم عرف العالم الصناعي في العشر سنوات التالية حركات قوية تطالب الدولة بالتدخل لتصحيح مظاهر التدهور في نوعية الحياة وتخفيف التفاوت بين الدخول (كان من بينها ثورة الطلبة الشهيرة التي بدأت في فرنسا أولا ثم انتشرت الى سائر أنحاء العالم الغربي)، الى حد مناداة البعض بأن تقنع الدول الغنية بمعدل للنمو يساوى صفراً.
ولكن ما أن اشتد عود ثورة المعلومات والاتصالات حتى اشتد الضغط لإطلاق حرية الرأسماليين من جديد، وعرفنا عصر الرأسمالية مطلقة اليدين حتى وقعت الأزمة العالمية الراهنة.
هل يجوز أن نستخلص من ذلك: أنه كلما كان هناك دور إيجابي لرأس المال الخاص في تطوير التكنولوجيا وتحقيق تقدم اقتصادي سريع، ساد نظام من الرأسمالية المطلقة اليدين، ولكن ما ان يضعف هذا الدور ويتباطأ النمو الاقتصادي والتكنولوجي، حتى يشتد الضغط لفرض قيود على الرأسماليين وإحكام قبضة الدولة على الاقتصاد؟
ـ كاتب مصري
sgsaafan@aucegypt.edu