لعلّ ذروة مجريات محاكمة كوبلنز تلك المرافعة/البيان التي قدّمها “أنور رسلان” رئيس فرع التحقيق دفاعاً أخيراً، يلتمس تخفيفاً للحكم الذي سيصدر بحقّه في أهمّ جهاز قضائي، في دولة قانون، وفي أهمّ قضايا القانون الدولي. ضابط المخابرات رئيس فرع التحقيق يعتذر في بيانه للشعب السوري، ولكنه في سرديّة اعتذاره، أعطى ما يكفي لإدانة منظومة عصابة الاستبداد الأسدية الحاكمة، فنسف سرديتها القائمة على مناهضتها الإرهاب، لتكون عماداً للإرهاب والتوحّش الذي لا مثيل له، سابقاً أو لاحقاً.
كوبلنز لم تكن محاكمة لشخص، بل قدّمت للعالم ما يكفي من الأدلّة على أن القمع والتعذيب والقتل كان نهجاً اختطّه النظام العصابة، وسياسة سار عليها، ويقدّم اعترافاً، طالما أنكره النظام، بقيام ميليشيات يدعمها بمجزرة الحولة، ليكون في إطار الجرائم ضد الإنسانية. وهي أيضاً-كوبلنز-ستُكرّس رمزاً للعدالة الدولية، وبداية طريق طويلة حيث يكون سوريون وبيئة قانونية تستوعب مظالمهم ومعاناتهم، بعيداً عن دهاليز السياسة وصفقاتها ومقايضاتها وتوازنات القوى المتصارعة في سورية، فتحاكم نظاماً وتدينه قبل سقوطه، على الرغم من وجود من يدافع عنه ويتحالف معه، ويعمل على تقويته واستمراره، فتكون مدماكاً يؤسس لعدالة دولية، تستحثّ آخرين اقتفاءه والقياس عليه دعماً لحقّ السوريين في ثورتهم من أجل الحرية والعدالة والكرامة.
كوبلنز فتحت الأبواب على مصاريعها لتجريم النظام- في استخدامه الأسلحة الكيميائية والتغيير الديمغرافي وقصف المدنيين وحصارهم وتجويعهم واعتقالهم وتعذيبهم وقتلهم وتدمير المنشآت” المدارس والمشافي…”- وربما تختطّ مساراً في القضية السورية، يؤكّد ألا مهرب لمرتكبي الجرائم، وأنهم سيحاسبون ويُساءلون، ورسلان واحد من آلاف، اعتمد عليهم النظام، فعلوا-وما زالوا- ما كان يفعل، وحصيلته منفرداً في عام واحد تعذيب آلاف والتسبّب بموت 27منهم، غير الاعتداءات الجنسية، تُرى ما حصيلة من بقي حتى الآن من جلاوزة استخبارات العصابة الأسدية خلال 10سنوات؟
بالتأكيد كوبلنز خطوة مهمّة ومثال يُحتذى لدول تعتمد مبدأ الولاية القضائية العالمية، بل هي صرخة توقظ الضمير الإنساني، وتدفع لضغط الرأي العام الغربي على حكوماته لتفعيل ما من شأنه منع تهرّب المجرمين من العقاب، أو التمادي في الإجرام، وصولاً إلى إنشاء محكمة دولية خاصة تعنى بجرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية في سورية، إذ بدأت بدفع الاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة للمطالبة بإحالة الملف السوري إلى الجنائية الدولية، وبالتالي إنهاء ارتهانه للصراعات الإقليمية والدولية التي لا أفق لانتهائها في المشرق العربي.
كوبلنز، أخيراً، تمنح بعض الأمل بإمكانية تحقيق العدالة، ولكن لا تحسبوها، وأمثالها، العدالة الانتقالية التي ينشدها السوريون، بعد قتل نصف مليون، واعتقال وتغييب وتعذيب ضعفهم، وتشريد وتهجير واقتلاع الملايين من وطنهم، وتدمير بنى حياتهم عمراناً واجتماعاً واقتصاداً وثقافة ومستقبلاً، ومَن بقي مكرهاً، فهو رهينة لعصابة تبتزّ العالم لتبقى إلى حين.
رئيس التحرير