ما الذي نريده من زيارة المريض؟
الجواب النمطي: مواساته، والتخفيف عنه.
في الحقيقة قد يكون جزء من هذا الجواب حقيقياً، من جهة أن الرغبة في التخفيف عن المريض هي نزوع عاطفي، يحتمل أن يكون صادقا، وقد يحتمل ألا يكون صادقاً أيضاً.
حين يكون السلوك عاطفياً، فإن المرء يتوسل إلى البرهنة عليه بواسطة المحسوسات، كتقديم باقة ورد، أو النطق بكلمات طيبة، ونحو ذلك. لكن ماذا لو وقف العائد (الزّائر) على رأس المريض، ليقول له: إنك مريض!
لعلّ هذا لو حدث فإنّه سيكون دليلاً مادياً على مشاعر متناقضة مع هدف الزيارة، بل ويجعلنا نراجع حتى البديهيّات للتأكد من هويّة الزائر، حتى لو بدا بهيئة طبيب، وكذلك مراجعة صحّة ما إذا كان المريض مريضاً أو غير مريض، إذ يصعب اعتبار ذلك السلوك اللّفظي تقصيّاً لحقيقة العلاقة بين المريض وبين المرض، بالقدر الذي يظهر سعياً لإثبات المرض على (المريض)، بغض النظر عن كل منطق!
إن كان بشار أكثر المختلّين سقوطاً إلا أن الخلل ذاته يمكن أن يجري في سلوك كل فئة متكسّبة من توفر الألم
أثناء خطاب بشار الأسد في نيسان 2014 ، أي بعد نحو ثلاث سنوات على انطلاقة الثورة السوريّة، وبعد أن تمكن الإرهاب العالمي من السيطرة على مساحة واسعة من مناطق الثورة، سقط بشار “الطبيب” بهذا الخلل المنطقي والأخلاقي حيث تنفّس بشار الأسد الصعداء، وأطنب في وصف الإرهاب، والربط بينه وبين السوريين (السوريين على وجه التحديد)، فيما بدت على وجهه ملامح الفرحة والبهجة والسرور، فقال: (هناك عشرات الآلاف من الإرهابيين “السوريين” خلف هؤلاء الإرهابيين هناك “حاضنة اجتماعيّة” عائلة، قريب، جار، صديق، هناك أشخاص آخرون، يعني نحن نتحدّث عن مئات الآلاف، وربّما الملايين من السوريين..) كان يُسهب في الكلام كمن يصف كنزاً قد عثر عليه!
وإن كان بشار أكثر المختلّين سقوطاً إلا أن الخلل ذاته يمكن أن يجري في سلوك كل فئة متكسّبة من توفر الألم، ويمكن ملاحظتها وهي تستمتع في وصف الألم، حتّى يكاد منطقها يُفصح عن علاقة حميمة بينها وبين توفّر الألم، وهذا قبحٌ جمالي وأخلاقي دون شك. لكن، أكثر ما يتّضح هذا القبح في الجانب المنطقي والحقوقي، حين لا تتورع، تلك الفئة، عن نسبة الألم إلى من يعاني منه، عندئذ لا يمكن اعتبار كلامها وصفاً سريرياً، غايته تتبع مصدر ألم، بل تُنبِؤ منطقها عن منهج كيدي، يسعى إلى الإيقاع بصاحب الألم.
لتقريب فكرة الفرق بين الوصفي والمعياري، لنلاحظ، على سبيل المثال، الصيغة التالية: (هؤلاء جرفهم التيار).
تبدو الصيغة، للوهلة الأولى، وصفاً لشخصٍ ما (رجل أو امرأة) جرفه سيل ماء قوي، فلم يتمكن ذلك الشخص من الثبات، ومقاومة قوّة التيار، وهذا معنى يدعو إلى الأسف. لكن سنحاول التأكّد من مصلحة قائل: (جرفهم التيار) إذ قد يحمل الوصف، نسقاً معياريّا، كيديّا كـمعنى: (انجرفوا مع التيار) أي نسبة فعل الانجراف إلى المفعول حقيقةً، ولعلّنا يمكن أن نسمّي ذلك: (هَوْيَنة) الضحيّة إذا جاز التعبير.
وهل تستطيع الأشجار بقوتها أن تصمد أمام تيار جارف!
إن الخطاب الذي يتكسّب من إثبات تهمة الانجراف على المنجرف، خطاب منحاز، يهمل عدم توفر القدرة على اتخاذ خيار (عدم الانجراف) أمام قوّة السيل، وهذا المنطق أشبه ما يكون بخطاب أيديولوجيّ حتميّ، يبحث عن النتيجة قبل دراسة أسبابها، بل قبل مباشرة أيّة قضيّة، لذلك لا يمكن الوثوق بمنطق كهذا.
ثمّة جملة أخرى قد تؤكد على الخلل وتبرر له: (الضحيّة ليست بريئة من دمها!)،
ولإثبات عدم براءة الضّحيّة قد يذهب بعضهم للقول: لولا ذنوب الضحيّة لما صارت ضحيّة…!
وقد يعود آخرون إلى الطبيعة ليبرهنوا على: أنّ ركض الفريسة أمام المفترس هو ما أثار في المفترس غريزة الافتراس!
لكن هل تُلام الغزالة إن حاولت الركض للإفلات من فكّي ضبع، فالضباع تفترس الحملان النائمة، كما تفترس الغزالة المصابة التي لم تتمكن من الركض أكثر، فغدت ضحيّة!.
ربّما يمكننا ملاحظة أن أصابع الاتهام كانت متجهة، منذ البدء، نحو الضحيّة، وقد يختلط البحث عن دليل الاتهام بالبحث عن مبرر للمجرم!
إنّ مثل هدا المنطق لا يتكفّل بإدانة من وقع في المشكلة فحسب، بل وبتبرئة مسبّبها كذلك، والتستّر على سببها، سواء أكانت المشكلة مرضاً، أو جريمة، أو إرهاباً، ويكاد يشي هذا المنطق بالمصلحة التي تكون، عادة، من ورائه، بل ولا غرابة في التشكيك بنزاهة ذلك (الطبيب)، أو (المحامي)، أو (السياسي)، إن كانت مصلحته في استمرار الألم، أو الجريمة، أو الإرهاب.
إنّ منطق “الضحيّة ليست بريئة من دمها” مقبول شرط أن تكون الكارثة، التي جعلت من الضحيّة ضحيّة، جاءت نتيجة خيار خاطئ ارتكبته الضحيّة، لا نتيجة عدم توفر حتى خيار الدفاع عن نفسها!
وقد يقول قائل: إنّ حياة البؤس التي يعاني منها الشعب السوري سببها المطالبة بالحريّة، وهذا خيار خاطئ! فيظهر المنطق المختل من جديد بلبوس طيّب ليدين الضّحيّة، ضمنا، بأن من طالب بالحريّة مشترك في جريمة فقدانها، وهذا يتجاوز الوعي البسيط، الذي يدرك أنّ الحريّة ليست خياراً، بل إنّها العتبة الوجوديّة الضامنة لتعدد الخيارات.
ربّما من الأجدر بالطبيب وبالمحامي وبالسياسي، بل وبصاحب النيّة الطيّبة أن يبحثوا عن دوافع أخرى وراء المشكلة، دوافع ملتصقة بطبيعة الفاعل، لا بطبيعة الضحيّة.
في ظل عدم تمّكن غالبيّة الشعب السوري من حريّة اختياره، فإنّ تصارع الأيديولوجيات فوق رؤوسهم، لا شكّ أنّه يزيد الطين بِلّة، ويفرز لغة تختزلهم ضمن هويات حتميّة جمعيّة تتستّر على كثير من أسباب ألمهم.
إنّ تركيباً من مثل (الحاضنة الشعبيّة أو المجتمعية)، يشبه منطق الحجر الصحي في العصور الوسطى، حيث كان على الصحيح والمريض أن يُحتَجزوا في مكان واحد مغلق، ما يمنح المرض فرصة للفتك بهم جميعاً. إن مثل هذه الصيغة قد تساهم في وسم أعدادٍ كبيرةٍ من الشعب السوري بأمراضٍ هم أصحاب المصلحة الحقيقيّة بزوالها!
صيغة “حاضنة مجتمعيّة للتنظيم” هي صيغة أيديولوجيّة، معياريّة، عنصريّة أكثر قبحاً من سابقتها، إذ تحمل، ضمناً، اتّهاماً للعِرق وللثقافة معاً
وقد يتضاعف الخلل المنطقي والأخلاقي، ذلك الذي سنّه بشار الأسد، على لسان سلطة أمر واقع تتحّكم في رقاب أهلنا العرب في الجزيرة السوريّة، ثم تتهمهم، عبر مثقفيها وإعلاميّيها، بأنهم “الحاضنة الشعبيّة لـ داعش”، وكأنّ “داعش” ليس تنظيماً إرهابيّا، يفتك، أكثر ما يفتك، بهم، بل وكأنّ “داعش” أعضاء مجلس نوّاب منتخبون من قبل عرب الجزيرة!
أمّا صيغة “حاضنة مجتمعيّة للتنظيم” فهي صيغة أيديولوجيّة، معياريّة، عنصريّة أكثر قبحاً من سابقتها، إذ تحمل، ضمناً، اتّهاماً للعِرق وللثقافة معاً، وهي تعبّر عن رغبة سلطة الأمر الواقع، في انتهاز الفرصة لإجراء تغيير ديمغرافي، أكثر من اهتمام تلك السلطة بمعالجة ظاهرة الإرهاب، وفي هذه الصيغة يصح قول أمين معلوف: (أليست فضيلة القوميّة -الأيديولوجيا- الأولى أنها تجد لكل مشكلة مذنبا بدلا من حل)!
إنّ المنطق المدني لا يُجيز اتهام الجماعات، بصفات معياريّة، مالم يمتلك كل فرد من هذه الجماعات حقّه، في قبول أو رفض التهم الموجّهة إليه. إذ غالبا ما تكون الضحيّة بريئة من دمها المسفوك على أيدي المجرمين، أعداء حريتها، لأنّ الضحيّة، كلّ ضحيّة، لو امتلكت حريّة خياراتها؛ لما اختارت إلا الحياة.
“تلفزيون سوريا”