القهر والظلم متلازمان لا يسلم منهما حتى من نخالهم قد خلقوا للسعادة والهناء. وليس هناك أتعس حظا من العبيد، الذين يسلبون ليس فقط حريتهم وهويتهم، بل كل حق مخول للبشر والحيوان على حد سواء، بما في ذلك حرية السيطرة على الجسد والمتطلبات الشخصية. ومع وقوع الإنسان فريسة للقهر والظلم، هناك طريقان – لا ثالث لهما – يتعين عليه أن يسلك أحدهما؛ إما الخنوع والرضا بحياة القهر والظلم، أو التمرد والتحول إلى عنصر مقاومة؛ ليبدل مسار تاريخه الشخصي، بل قد يتحول لأيقونة جهاد تُشعل نبراس المقاومة ضد الظلم والظالمين.
فطن لهذا اللون من أدب المقاومة سكان الحضارة الإسلامية قديما، وإن صيغ بشكل جاذب تخطى حدود المحلية فانطلق للعالمية. وأدب المقاومة في تلك الحضارة – المشهورة بفصاحة البيان – مكتوب بلغة سهلة وبسيطة. فمثلا ابن الرومي في شعره الهجائي، بعيد كل البعد عن البهلوانية اللغوية؛ لأنه استخدم أشعاره لمقاومة التجاهل والحط من شأنه. وأما الكنز الفريد الذي لا تنتهي ينابيع حرفيته، فهو كتاب «ألف ليلة وليلة» وهو عبارة عن مجموعة من الحكايات الشعبية المتفرقة، التي ظهرت في وسط وغرب آسيا، ثم تمت ترجمتها للعربية إبان العصر العباسي الذهبي. وبعد الترجمة، أضيفت للكتاب حكايات أخرى من أمصار مختلفة، مثل: مصر وبلاد الرافدين وفارس والهند؛ والغرض الظاهر من الإضافة هو وصول عدد الحكايات للألف، وإن كان الغرض الأكبر من ذلك هو، التعرف على أحوال رؤوس الأمصار الإسلامية. وأسلوب الكتاب في حد ذاته شديد التطور؛ حيث يدور حول قصة إطارية تضم تحت جناحيها العديد من الحكايات الشيقة، التي تحث القارئ على قراءتها والإسهام في تَنَاقُلها عبر العصور والثقافات.
والقصة الإطارية التي هي أيضا إحدى قصص كتاب «ألف ليلة وليلة» تحيي خبر السلطان «شهريار» وزوجه «شهرزاد». إلا أن الحكاية الأصلية مبدأها يختلف تماما عما تناقلته وسائل الإعلام؛ لأنها بالأساس تبدأ مع حكاية أخو السلطان «شهريار» وهو السلطان «شاه زمان» الذي يقتل زوجته لخيانتها إياه. ثم، يذهب إلى أخيه وقد أنهكته الصدمة والإعياء الشديد، لكن مع خروج «شهريار» لرحلة صيد، يكتشف «شاه زمان» أن زوجة أخيه أيضا تخونه مع عبد أسود، وعندما يكشف لأخيه الخيانة يقتل زوجته. وعندها، يترك الأخوان مملكتيهما ويجوبان الأرض بحثا عن آخرين أنزل الدهر بهم مصائب جلل مثلهما. وفي حال وجود من ابتُلي بمصائب مثلهما، يؤوبان إلى مملكتيهما. وفي مسار الرحلة، يجدان ماردا قد خطف فتاة ليلة زفافها من زوجها قبل أن يمسسها. بيد أنه، بمجرد خلوده للنوم تخونه الفتاة مع شهريار وشاه زمان؛ انتقاما لحرمانها من زوجها وحبسه إياها لسنوات طويلة. عندئذِ، يقرر الأخوان الرجوع. لكن «شهريار» المكلوم يقسم على أن يتزوج كل يوم بفتاة يقتُلها بعد قضاء ليلته معها؛ ليضمن ألا تخونه. ولما تزوج «شهرزاد» ابنة وزيره، تقوم بحيلة نافذة تجنبها الموت؛ فتصطحب معها اختها الطفلة «دنيا زاد» التي تلقنها الإلحاح على السلطان ألا يقتل اختها قبل أن تحكي لها حدوتة كما تعودَت منها. ولغرابة الحكايات، ينصت لها «شهريار» ويستمتع. أما «شهرزاد» فتتوقف في كل يوم عند نقطة مشوقة تجبر «شهريار» على أن يجنبها الموت لليلة أخرى. وتتوإلى الحكايات.
وتجب الإشارة إلى أن الحكايات التي تبدو في كثير من الأحيان تهجو المرأة، وتبرز أنها نموذج للخيانة والغدر، قد قيلت على لسان امرأة لها من الحكمة والرشد ما يروض سلطانا شديد الغضب والسخط. فحوّلته من جبارِ ظالمِ، إلى سلطاِن عادلِ.
والحكايات في حد ذاتها، بالنظر للمحتوى وأسلوب الحكي، غير تقليدية، وتعد نقلة حضارية وأخلاقية؛ تلفت النظر لمجتمع جديد متعدد الأصول والثقافات، وينعم بطفرات تكنولوجية عملاقة تزيد من طموح الأفراد، وتحثهم على التطلع إلى عالم أفضل، ويظهر ذلك في إقحام الجن والعفاريت والسحر والكائنات الخرافية في داخل الحكايات، بالإضافة إلى حكايات الترحال والأسفار والتعرف على عادات وثقافات دول لم يكن ليعرف المستمع عنها شيئا ومن ثم، صارت عنصرا جاذبا واقعيا اقتنع المتلقي بقدرتها على السيطرة على انتباه «شهريار».
ومن الجدير بالذكر أن الحكايات الأولى في المؤلف ظلامية؛ بحيث تتحدث عن الظلم والقهر وكيفية درء العدوان. أما القسم التالي فيشدد على أفضل القيم والأخلاق التي يجب أن يتحلى بها المرء، والعادات الواجب نبذها. ويأتي القسم الأخير ليكون تثقيفيا وتعليميا، يساعد على الرقي وفتح المدارك، من خلال حكايات بمثابة أسفار عبر الزمان والمكان، من شأنها ـ كما ترمي شهرزاد – تعليم الحاكم كيف يتعامل مع رعاياه على اختلاف ثقافاتهم وميولهم.
اللغة المكتوبة بها الحكايات سهلة لحد الخلل، وأسلوب الحكي سطحي بسيط يتناسب مع ما يمكن أن تفهمه طفلة صغيرة مثل «دنيا زاد». وبذلك يناسب محتوى الكتاب الأفراد محدودي العلم والثقافة، ويجذب انتباه ذوي الثقافات الرفيعة.
ويلاحظ أن الحكايات يشوبها الكثير من العنف والكلمات والمغازي الإباحية، التي تُعبر بالفعل عن المجتمع المكفول به حرية التحدث في تلك الموضوعات في داخل البيوت والمجالس الخاصة، فلزم خروج تلك القضايا الجدلية للساحة لتصحيح المفاهيم الخاطئة. وبهذا الأسلوب الملتوي، تعبر «شهرزاد» عما يقهر الشعوب ويزيد الاستياء من الحاكم، بل، وتعلم «شهريار» أنه كلما ازداد بطش الحاكم، سيعمد الشعب للمقاومة بطرق أشرس، وهذا هو مغزى كتاب «ألف ليلة وليلة» الذي مستهله أن الظلم والخيانة تولد المقاومة العنيفة، كما حدث لشهريار وأخيه وللفتاة التي اختطفها المارد ليلة زفافها. ومن خلال شخصية «شهرزاد» نفسها يُدرك المتلقي أن القدر المحتوم يمكن تبديله بالسعي والاجتهاد اللذين هم أساس المقاومة، مثلما قاومت «شهرزاد» بطش «شهريار».
وتجب الإشارة إلى أن الحكايات التي تبدو في كثير من الأحيان تهجو المرأة، وتبرز أنها نموذج للخيانة والغدر، قد قيلت على لسان امرأة لها من الحكمة والرشد ما يروض سلطانا شديد الغضب والسخط. فحوّلته من جبارِ ظالمِ، إلى سلطاِن عادلِ. وهنا تتضح الحكمة من إبراز دور العنصر النسوي في هذا الكتاب، سواء بالسلب أو الإيجاب؛ فالمرأة أضعف حلقات المجتمع والجانب المهمش منه، ما يوضح أن درء المظلوم للظُلم قد يصير شديد العنف. وعلى هذا، يمكن اعتبار كتاب «ألف ليلة وليلة» من أولى الوثائق العربية التي تثير قضايا حقوق الإنسان، وطرق احتواء المهمشين اجتماعيا وسياسيا، بل يسلط الضوء على حقوق المرأة التي قد تكون تصرفاتها العنيفة أو الماجنة، رد فعل لعدوان تعرضت له، وأحد أساليبها للثأر لنفسها.
«ألف ليلة وليلة» من الكتب الفلسفية الحكيمة التي تعُج بقضايا وحِكَم مهمة تتخطى حدود الزمان والمكان، وتنطبق على جميع المجتمعات على مر العصور؛ لأنه يُثير قضايا إنسانية من زاوية فلسفية.
كاتبة مصرية
“القدس العربي”