جاء في «المعنى الصحيح لإنجيل المسيح» أن تسمية المسيح الله «أباً» ونفسه «ابناً» هي من قبيل المجاز. وهو استخدام توراتي لا علاقة له بالولادة البشرية وإنما بفكرة سلطة الأب وطاعته. والله هنا يرعى شعبه كما يرعى الأب أبناءه. يقول النبي أشعيا في إحدى صلواته: «ومع ذلك فأنت يا الله أبونا. نحن الطين وأنت الخزاف؛ وكلنا عمل يديك» (أشعيا 64:8) وفي سفر الخروج، يقول الله لموسى: «ثم قل لفرعون: هذا ما يقوله الله: شعب بني يعقوب هو كابني البكر. قلت لك: أطلق ابني ليعبدني؛ لكنك رفضت إطلاقه، لذلك سأهلك ابنك البكر» (سفر الخروج 4: 22ـ23) وهذه صورة تشبيهية لا تخفى؛ قوامها بنية تداخل بين المشبه «الله» والمشبه به «الأب» والمشبه «الشعب» والمشبه به «الابن»؛ مع احتفاظ كل منهما بتمايزه عن الآخر. وتتعزز الصورة ذاتها في نصوص أخرى؛ مثلما جاء على لسان النبي هوشع: «عندما كان شعب بني يعقوب صغيرا، أحببته؛ ومن مصر دعوت ابني» (هوشع 11 : 1). وفي هذا السياق المخصوص بالتوراة والزبور وكتب الأنبياء، ندرك مقولة «الأب» و«الابن» عند المسيح؛ خارج معنى الإنجاب أو الولادة البشرية. فهذا من سوء الفهم الناجم عن بدع قد تكون شاعت في فترة ما، أو عن الوثنية، من جهة؛ وعن خلط بين «الأب» أو «الابن» صورة مجازية، وبين هذين واقع وحقيقة. والأمر أشبه ما يكون بـ«القرآن» في المنظور الإسلامي؛ فهو مَجلى الذات الإلهية، على نحو ما كان المسيح مجلَى هذه الذات أو كلمة الله. والعلاقة بين يسوع الإبن والله الأب قد تجلت على الصليب؛ حيث يسوع يخاطب الآب ـ الإله: «يا أبتاه اغفر لهم لأنهم لا يعلمون ماذا يفعلون» لوقا 34:23
«يا أبتاه فى يديك أستودع روحي» لوقا 46:23.
هذه الصورة لا يمكن إلا أن تُحمل على وجه استعاري. ومفردة «الأب» تتعلق بوظيفة الأب أو بصفاته على نحو ما نجد في «نذر إسحاق» في التوراة. واسم الأب أو «أبونا» تركيب بالإضافة. والقضية من هذا الجانب لغوية بقدر ما هي دينية بالمعنى الدقيق للكلمة؛ أي الأب من حيث هو رمز. وصورة «الإله ـ الأب» ترجع إلى معان حافة خاصة بالمسيحية، أو إلى «فضل معنى» في المقول، يتقبله المسيحي، وقد يشيح عنه غير المسيحي، الذي لا يرى في مفردة «الأب» أو «الابن» أي دلالة مجازية.
إن المسيحية لا ترى في الإضافة التي نحن بصددها، مجرد نسبة اسم إلى اسم على وجه يكون فيه تخصيص أو تعيين أو تعريف، وإنما لغة قادرة على إعادةِ تسمية تَبِين عن تدخل الذات اللغوي في العالم وسبيلها إلى إدراكه. والأب موضوع «فرويدي» وهو بمثابة قانون أساسي في سياق أوديبي، أي تحريم سفاح القربى أو ارتكاب المحارم. وقد حاول فرويد أن يصف انتقال الإنسان من الحياة الحيوانية إلى العالم الإنساني؛ أي لحظة ولادة الكائن البشري في إنسانيته الخالصة وظهور الثقافة. وهو بذلك يحرر أسطورة يمكن أن نسِمَها بـ«التأسيسية» تسلط الضوء على حقيقة هذه البنية؛ وقاعدتها أو المصادرة التي تنهض عليها، أن الكائن البشري درج أول ما درج في العالم الإنساني، بواسطة «قتل الأب».
وقبل هذا الزمن الحسي لا التاريخي، لم يكن هناك أي علاقة مؤنسنة بالآخر، ولا أي مجال للعيش معا، وإنما هناك عالم العشيرة، أو القوم الرحل؛ حيث سلطان الذكر الذي يزيح أو يقتل كل من يتهدد سلطته أو ينافسه على ملكية الإناث. هذا الأب «الأولي» لا يخضع لشيء؛ وإنما هو يتجلى في كامل قوته أو قدرته، ولا قانون يحتكم إليه سوى متعته اللامحدودة الملغزة اللامتوقعة، أو الكيفية التعسفية الاستبدادية التي يبسط بها سلطانه. ولا أحد في مقدوره أن يحتل المكانة الأولى، إلا إذا ادعى أنه «أبو العشيرة» أي الذي لا ينتمي إلى عالم البشر، ما دام يعتبر نفسه مصدر نفسه. والانتقال من الطبيعة إلى الثقافة فكرة أسطورية. والخطاب الأسطوري وحده ـ كما يقرر دارسوه ـ هو وحده الذي يستطيع أن يؤكد الأولية «التاريخية» للطبيعة؛ إذ لا يمكن إدراكها إلا داخل مسميات الثقافة وباصطلاحاتها.
لعل أهم ما نخلص إليه هو أن الأب في المخيال الفردي والجمعي هو رمز القوة والسلطان. وهذا ما يسوغ استعارته للذات الإلهية. و«الأب» كلمة أقدم من اليهودية والمسيحية بكثير؛ وإن استخدمها اليهود والمسيحيون الأوائل في مخاطبة الله؛ ثم صارت لقبا للأساقفة والبطاركة.
وعند فريد فإن موت الأب أو قتله؛ مما يصعب على الأبناء قبوله أو تحمله، فهم بعد إزاحته، يقيمون طوطما أو رمزا أو وثنا يتمثله، ويقدمون له النذر وطقوس الفداء. والطوطم هو الصورة المثالية لـ«الأب» الذي نخضع له ونخلص له كل الإخلاص، رجاء في أن نسلبه قوته، أو نستحوذ عليها؛ كما هو الشأن عند أكل الطوطم. وفي هذا المجال يضع فرويد المعتقدات الدينية في صورة «الإله ـ الأب» من حيث هي طرائق في رفض المنزلة الإنسانية، والاعتقاد في سلطة تمتلك ما نحن محرومون منه، أو هو ما ليس نحن. والأمر يتعلق بتحويل «أب العشيرة» إلى أب مثالٍ.
هناك اسم لا شك، لكنه لا يمتلك سلطان التسمية. ومثلما يقول فيليب جوليان، فإن الاسم الشخصي لـ«الإله التوراتي» الذي يعلن عنه» ثغرة في اللغة، تسدها أسماء ليست له. فهوية الإله مخفية لأسباب غامضة، وإذا كان الله لا يكشف عن اسمه، فليس مرد ذلك إلى أنه يحظر على الإنسان أن يسميه وحسب؛ وإنما لأن كشفا كهذا مستحيل؛ حتى لو اعتبرناه سرا، فالسر يُفشى لكن باعتباره سرا. وقد بين كونتينو أن أغلب الأسماء الربانية عند كثير من الشعوب القديمة، تنشد إلى عرف أساسي مفاده، أنْ لا شيء يوجد، ما لم يكن له اسم. فالتسمية تقتضي وجود الشيء، واندماج هويته في التسمية، بل إن التسمية ضرب من الخلق. يقول: «فإذا عُرف اسم إله، فذكر اسمه استدعاء له. وبما أن قدومه عند استدعائه، نوع من الطاعة؛ فيتبع ذلك أن يكون في مقدور الإنسان أن يتسلط على إله، إلى حد ما». ولتلافي مثل هذا التسلط؛ كان لا بد من إخفاء اسم الإله، إما في هيئة جملة أو تركيب بالإضافة؛ على نحو ما نجد عند الآشوريين والبابليين، فقد سموا آلهتهم الكبرى «بيل» أي سيد، و«بيلت» أي سيدة. وعلى هذا جرى العبرانيون؛ فإن اسم الإله كان لا يُنطق به.
لعل أهم ما نخلص إليه هو أن الأب في المخيال الفردي والجمعي هو رمز القوة والسلطان. وهذا ما يسوغ استعارته للذات الإلهية. و«الأب» كلمة أقدم من اليهودية والمسيحية بكثير؛ وإن استخدمها اليهود والمسيحيون الأوائل في مخاطبة الله؛ ثم صارت لقبا للأساقفة والبطاركة. وقد خاطب الرب يسوع الآب بهذا اللقب في صلواته. وترد في العربية: أيها الآب أو يا أبتاه. و«الأب» ترد بهذا اللفظ وهذا المعني في اللغات السامية ومنها العربية. وتستعمل مفردا أو جمعا للدلالة لا على الوالد أو الجد أو ما قبله من أسلاف، وحسب؛ وإنما على جملة من المعاني المجازية.
فـ«أبو الشعب» أو أبو القبيلة» هو القائد أو الزعيم أو المؤسس، وليس من الضروري أن يكون أتباعه جميعا من صلبه. يقول العفيف الأخضر: «أما الأب الرمزي فهو الأب الميت، الأب الشهيد الذي يملي على أبنائه من وراء قبره قوانينه وشرائعه ويورثهم شعورا دائما بالذنب والخطيئة».
نعرف أن عامة المسلمين يرفضون مبدأ التثليث: «وإذ قال الله يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين دون الله. قال سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق…» المائدة 116. وعليه نقترح ـ لاجتناب اللبس الذي يقع فيه عامة المسلمين ـ هذا التركيب بالنعت«الأب الصمد» في أداء هذ المعنى الرمزي أو هذه «الاستعارة الأبوية». و«الصمد» الذي لا جوف له، أو الذي لا يأكل ولا يشرب، والذي لم يلد ولم يولد. وفي هذا يجري اسم «الأب ـ الإله» أي على أساس من قاعدة التبادل بين داخلي «الأب ـ الإله» وخارجي «الأب ـ الإنسان». ولا غرابة فـ»المجازي» هنا يرقى إلى «الأسطوري» ويقاسمه اللعب بالرموز. والأسطوري يفلت بحكم قاعه «الحلمي الطوباوي» من سطوة التاريخ، ويمتلك قدرة على أن يبني لنفسه حضورا كليا، يند عن أي ضبط أو قياس. و«الأب ـ الإله» دال ليس له من «الدنيوي» إلا الاسم «الأب». لنقل هو« دال ينهل من داله» أو أن الدال هنا هو المدلول نفسه أو المدلول الذي ليس له سوى صورة سمعية لا بصرية.. لنقل هو «الإله الذكر» وليس «الإله الأم»؛ وهو من ثمة استعارة أبوية أكثر منه أبوة استعارية؛ والاستعارة بنية تداخل بالمطابقة، تمحى فيها الحدود والماهيات والفواصل بين الأشياء؛ فلا غرابة في أن يحل «الابن» في «الأب» وأن يكون هذا ذاك.
كاتب وشاعر تونسي
“القدس العربي”