ليس من طبيعة الشعر، الاستقواء بأي سلطة غريبة عن جوهره، باعتباره التجسيد الفعلي لسلطة جمالية فكرية ولغوية قائمة الذات، ومؤهلة لتفعيل حضورها الاستثنائي، خارج مضارب الخطابات المعطوبة، والمتهافتة على تكريس حضورها، بفضل الدعم المأجور الذي تقدمه لها مختلف الخطابات الموجودة حولها.
وطبعا، يتعلق الأمر هنا بالشعر المنذور لاستشراف آفاقه الخاصة، حيث ينكب الكائن على سبر خباياه، المتوارية هي أيضا طي خبايا الوجود. إنه الشعر الذي تغطي غيومه سماواته الممتدة إلى حدود اللامكان، بعيدا عن تحكم أي وصاية رسمية تدعي لنفسها صلاحية ضبطها وهندستها لمسارات الآخرين، ومصائرهم.
أيضا، هو الشعر الذي يمتلك ما يكفي من القدرة على صهر كل العناصر المادية والرمزية، الكفيلة بوضعه على عتبة الرؤيا وعتبة القول، والذي يظل عصيا على أي استقطاب متعال ومجاني، يسعى إلى إنطاقه بغير لغاته، أو السير به في غير مداراته.
ولعل أقرب نموذج من نماذج الاستقطاب، الذي يمكن الاستئناس به في هذا السياق، ذلك الصادر عن مختلف التوجهات الأيديولوجية، التي تستفيد من رهافة الخيط الفاصل ظاهريا بين فضاءات اشتغالها، وفضاءات اشتغال الشعر، كي تحوله إلى مجرد «بوق!» تنحصر مهامه في التسبيح بتعاليمها ومنجزاتها. ودليلنا في ذلك، أغلب المقاربات التي دأبت على قراءة التراث الشعري الإنساني، على ضوء مقولة تبعيته الصريحة أو الضمنية لسلطة الأيديولوجيا، دون مراعاة عمق ذلك الاختلاف الجذري والهوياتي الفاصل بينهما. بما في ذلك تباين صيغة تعاملهما مع الواقع، وهي بالمناسبة، صيغة تحرص على توسيع الفارق إلى مداه، سواء من حيث الرؤية، أو من حيث البناء.
وفضلا عن الخصوصية المفارقة التي يتمتع بها الشعر، نستحضر ظاهرة تغلغل جوهره في الروح الإنسانية، ما يضاعف من تكالب الأيديولوجيا والأيديولوجيين على التلذذ بامتصاص دمه، ضدا من إرادة الشعراء، حيث لن نستغرب من استماتة الهاجس الأيديولوجي على إلحاق الشعريات الكونية العظمى، بركب الترسانة الأيديولوجية، الخبيرة بتسخير تقنيات السفر في الأزمنة والأمكنة، من أجل تحقيق هذا الهدف. وإذا كان من الضروري إضاءة بعض الملامح التي تتمظهر فيها الأيديولوجيا، فيمكن القول، إنها تمتلك تلك القدرة الأسطورية على إعلان ما تضمره، وإضمار ما تعلنه، باعتبارها الإطار الطبيعي الذي تتفاعل فيه الأضداد المتنابذة والمتنافرة كافة. فبقدر ما تتقمص خطاباتها تلك الروح المثالية الموحية بقدرتها على دعم الإنسانية، في تحيينها لسبل الخلاص، بقدر ما تكشف عن قابليتها للتحول إلى سلاح فتاك من أجل فرض الهيمنة، ونشر الاستبداد. إنها بهذا المعنى ذات وجهين، أحدهما يوحي بممارستها لرقابة تصحيحية لصالح الأفراد والجماعات، على أساس اعتمادها قوانين موضوعية، مستمدة من صلب الدينامية العقلانية التي تتميز بها العلوم التجريبية، حيث لا مجال للتلاعب العشوائي بمصائر الأفراد والجماعات، فيما يكشف الوجه الثاني عن قابليتها المتطرفة للفتك، على خلفية ما يسود تمفصلات خطاباتها من يقين أعمى، لا يتقبل أي اختلاف محتمل، مهما كانت طبيعته. وذلك هو أحد الأسباب الرئيسية، التي يحفز الأنظمة الشمولية على اتخاذها، أداة ناجعة من أجل إنجاز مهام التحشيد، الموجه بوهم خلق بنية جماهيرية متشابهة ومتجانسة كليا، بما لا يترك أي مجال للتنوع والاختلاف.
في ظل السقوط المهول، الذي أودى بآخر الأنفاس الكريهة للحربائية الأيديولوجية، وفي ظل تفاقم هوس النهب السياسي بمراكمة المزيد من الغنائم، وفي ظل تبخر أي أمل محتمل في الثقة بادعاءات هؤلاء وأولئك، هل ثمة ما يدعو للتعامل معهم، ولو على سبيل مزحة مغرقة في سوداويتها ومراراتها؟
ومن المؤكد أن مصدر السلاسة التي يتحقق بها تبني المقولات الأيديولوجية، يكمن في امتلاكها نسبة عالية من الإغراء والغواية، التي تمارسها على ضحاياها المأخوذين بخلّب برقها، خاصة أنها تأخذ شكل سياج واق، يحتمي به الفرد كما القطيع، من أذى الأيديولوجيات المضادة والمناوئة. كما أن التفاعل داخل المحيط العام من منطلق القرابة الأيديولوجية، يشحن الذات بما يكفي من ثقتها بمصداقية خطابها. باعتبار أن سلوكيات الذات المؤدلجة، تكون معززة سلفا بمبررات حضورها، الذي يصبح ممنهجا ومعقلنا، لا «يتسرب» خلل الشك إلى أسسه.
وبالنظر لتعدد القناعات والمرجعيات المنسجمة مع تعدد منهجيات التسلط والهيمنة، فلا مناص من أن تتعدد الأيديولوجيات التي تأخذ صيغة معسكرات، يتحين كل منها فرصته السانحة للانقضاض على غريمتها. فمن معسكرات يسار اليسار إلى معسكرات يمين اليمين، مرورا بتلك المحطة الملتبسة التي يروق لها أن تأخذ صفة الوسط، حيث يكون الفوز بالسلطة أو بمضغة من كتفها، هو الأفق الموعود والمشترك، الذي يلتئم حوله جشع الإخوة الأعداء، وقد غدا معززا بكل أنواع المكائد والأحقاد وشراسة الإقصاء.
والغريب في الأمر، أن نسبة كبيرة من الأطر القيادية المنتمية لهذا المعسكر أو ذاك، تعاني من فقر معرفي مهول في الإحاطة بالحد الأدنى من الإواليات الفكرية والنظرية التي تتمحور حولها خطاباتها الأيديولوجية. إنها غير معنية بتعميق معارفها في ما يخص مرجعياتها النظرية، ما دامت حظوة الانتماء إلى معسكر القطيع تفي بالغرض، دون أن تحول بينها وبين مهزلة الترديد الآلي لبعض المقولات الجاهزة والمسكوكة.
إن الأيديولوجيا بهذا المعنى، هي توأم العلم المزاحمة له، والمناقضة له في آن. وهي أيضا سليلة الانفجار النظري، الذي تميز به الغرب الأوروبي خلال القرن التاسع عشر، بموازاة انفجار مشاريع البحث العلمي. غير أنها لا تلبث في الوقت ذاته أن تتحول إلى سلاح فتاك، يكشف بشكل صارخ عن عنفه الداخلي.
وإذا كانت خطورة هذا السلاح، تتمثل بشكل مباشر في الترهيب الأيديولوجي الذي يطال الخطابات السياسية والفكرية، فإن الخطورة ذاتها، تتربص بالخطابات الإبداعية، وعلى رأسها الخطاب الشعري، التي يمكن رصدها في مستويين. يتمثل أولهما في حمى احتوائها للأعمال الشعرية الكبيرة، من خلال التأويل المبيت والممنهج لملفوظها،. بينما يتمثل المستوى الثاني، في احتضانها التدجيني لأشباه الشعراء الذين يحظون بتزكيتها، مقابل ولائهم اللامشروط لتعاليمها. وبالنظر إلى ميل التلقي العام للتفاعل الآلي مع هذه الفصيلة، سيكون من الطبيعي أن تطالعنا قطعانها، وهي تتسلل باحترافية قل نظيرها، إلى مختلف المحافل الأدبية، مكرسة حضورها – بقدرة قادر- ضدا من إرادة الشعر، والنثر أيضا.
ولربما بفعل الجائحة الأيديولوجية ذاتها، قد يُكره الشعراء الحقيقيون على إخلاء المشهد برمته، حفاظا ما أمكن، على خصوصية تجاربهم من ضراوة الابتذال.
لكن، في ظل السقوط المهول، الذي أودى بآخر الأنفاس الكريهة للحربائية الأيديولوجية، وفي ظل تفاقم هوس النهب السياسي بمراكمة المزيد من الغنائم، وفي ظل تبخر أي أمل محتمل في الثقة بادعاءات هؤلاء وأولئك، هل ثمة ما يدعو للتعامل معهم، ولو على سبيل مزحة مغرقة في سوداويتها ومراراتها؟
شاعر وكاتب مغربي
“القدس العربي”