لم يرتبط “رُهاب روسيا” بشخص في تاريخ الفكر الغربي قدر ارتباطه بكارل ماركس ولمرحلة غير قصيرة من عمره ونتاجه.
ففي وقت لعبت فيه الإمبراطورية الروسية دوراً أساسياً في إسناد الأنظمة الملكية وقمع ثورات 1848 الشعبية في أوروبا الوسطى والشرقية، اتصفت مقالات ماركس ورفيقه فريدريك انجلس بربط نجاح الثورة الديمقراطية بالوحدة الألمانية الكبرى من جهة (أي الشاملة لكل الناطقين بالألمانية في النمسا وتقويض إمبراطورية آل هابسبورغ)، وبتحرير بولونيا من الإلحاق الروسي لها من جهة أخرى.ففي مقالاته المنشورة ضمن “الجريدة الرينانية الجديدة” التي صدرت أولاً في كولونيا كأسبوعية، كجريدة منخرطة في الثورة، ثم تحولت إلى شهرية في المنفى بلندن، كتب ماركس أشرس عباراته ضد الروس، معتبراً أن تحرير بولونيا من النير الموسكوبي شرط شارط لاهتزاز الأنظمة الرجعية في كل أوروبا، وأن المسألة البولونية هي عين المسألة الألمانية، أي أن وحدة وتحرر الألمان لن تكون ممكنة من دون وحدة وتحرر البولونيين، وأن ذلك لا يعني أقل من وجوب شن الحرب على روسيا لإبعادها عن أوروبا!
وبالقدر نفسه الذي تحمّس فيه ماركس وانجلس للبولونيين ضد الروس، فقد طفقا يسوّغان لذلك من خلال اعتماد القسمة بين “أمم ثورية” وبين “أمم معادية للثورة”، لا بل استعادا من أجل ذلك التعارض ذي النفحة الهيغلية بين “شعوب لها تاريخ” وبين “شعوب بلا تاريخ”.
النموذج الأمضى لشعب له تاريخ، بموجب هذه القسمة، هم البولونيّون، في حين قدّم ماركس وبشكل نافر بعد أكثر انجلس، التشيك و”السلاف النمساويون” بعامة كشعوب بلا تاريخ.
وليس دلالة البلا تاريخ هنا أن يكون هذا الشعب بلا ماضي، بل أن لا يكون هذا الشعب عرف تجربة بناء دولة له في هذا الماضي.
لم يخش ماركس وانجلس آنذاك ما هو رائج اليوم التشكي منه من “كيل بمكيالين”. كالا بالمكيالين عن سبق إصرار وترصّد.
شدّد ماركس على أنه ليس ثمة في أوروبا إلا أحد خيارين، فإما البربرية الآسيوية تحت القيادة الموسكوبية كما أسماها، وإما استقلال بولونيا التام. هذا لأجل أن تكون بولونيا هي الحاجز بين أوروبا وبين آسيا
استقلال البولونيين جزء من المسار الكبير للتحرر الأوروبي في عرفهما، وليس هذا حال التشيك عندهما، لأنهما اعتبرا أن تحرر التشيك سيكون على حساب الثورة الألمانية وفيه مصلحة للهيمنة الروسية على وسط أوروبا!
أكثر من ذلك، لم يبخل انجلس بكلماته الهجائية للروثيين، أي أوكران الأقاليم الغربية من بلادهم اليوم. زج انجلس هؤلاء الأوكران في فئة الشعوب الفاقدة للتاريخ، واعتبر أن “لهجتهم مختلفة بشكل طفيف عن البولونيين” ولا شيء يبرر لهم أن يكون لهم قضية تحررية لوحدهم، وأي نصرة لهم هي على حساب القضية الديمقراطية التحررية الأصح، للشعب البولوني. لذا، يرى المفكر الماركسي الأوكراني رومان روسدولسكي في كتابه “فريدريك انجلس والشعوب البلا تاريخ” أن انجلس يردد هنا موقف النبالة البولونية في ذلك الزمان! لا بل أن ما كابر عليه ماركس وانجلس في المسألة البولونية في حينه أنهما كانا بالفعل يستعيدان موقف الأريستوقراطيين البولونيين الذين واجهوا وحدهم الروس، في حين انقسم فلاحو بولونيا بين الانحياز للروس أو النمساويين أو البروسيين ضد الأريستوقراطيين! بالتالي، بالنسبة الى روسدولسكي أقدم ماركس وانجلس على طمس الصراع الطبقي داخل الأمة البولونية حين لم يكن من مصلحتهما إظهاره!
ورومان روسدولسكي المولود في ليمبرغ التي أصبحت تدعى لفوف في غرب أوكرانيا اليوم، هو نموذج من الذين حاولوا إعادة فتح أرشيف تعاطي ماركس وانجلس مع المسائل القومية والإثنية إبان ثورات 1848، بشكل لم يكن لتتقبله لا الأيديولوجيا السائدة في موسكو، ولا الغالب على الماركسية الغربية في الوقت عينه. في المقابل، أوعز جوزيف ستالين منذ بداية الثلاثينيات لمعهد ماركس انجلس بوجوب التعتيم على كتابات ماركس وانجلس الروسوفوبية في مرحلة ازداد فيها تشديد ستالين على وجوب الدمج بين الماركسية اللينينية وبين إبراز الصفات المسيحانية، الخلاصية الكونية، للشعب الروسي، أكبر شعوب الإتحاد!
عانى روسدولسكي القمع الستاليني، ثم رحّله الألمان الى أوشفيتز ونجا من المحرقة وتابع عمله النظري حول مصادر تشكل كتاب رأس المال لماركس في الولايات المتحدة. لكن كتابه حول انجلس والشعوب البلا تاريخ يبقى صادماً في مضامينه حين نعاود قراءته اليوم. ثمة أمم كانت تحظى بتأييد انجلس ومن ورائه ماركس، وثمة في مقابلها أمم وأقوام اعتبر مؤسسا المادية التاريخية أن تحررهما يخدم الاستبداد أكثر ما يعين سواها على التحرر!
بيد أن روسدولسكي يركز أكثر على سلبية ماركس وانجلس تجاه الشعوب السلافية “باستثناء البولونيين” أو بالأحرى باستثناء الأقلية النبيلية من البولونيين، في حين أن الروسوفوبيا هي التي تعود للصدارة في تفكير ماركس وانجلس عند ميكلوس مولنار في كتابه عن نظرتهما للسياسة الدولية في عصرهما ولمسائل القوميات والأمم. فموقف ماركس لم ينحصر بالغلواء ضد تدخل القيصر نقولا الأول رومانوف ضد ثورات شعوب أوروبا 1848 – 1849.
بل أن ماركس قام بتأصيل هذا الموقف طيلة الخمسينيات من القرن التاسع عشر. اذ شدد غير مرة على أن روسيا مولودة في “الوحل الدموي للعبودية المغولية” هي النقيض للحضارة الأوروبية، وبالكاد استثنى الخطوات المتأوربة للقيصر بطرس الأكبر من هذا الموقف الحاد ضد روسيا، التي لم تتحرر من المغول والتتار بالنسبة الى ماركس، إلا بعد أن اكتسبت أسلوب نشر العبودية في المحيط منهم!
واذا كان ماركس في مرحلة الثورة يدعو لاستكمالها بالحرب على روسيا، فإنه كاد إبان حرب القرم 1853-1856 أن يخلص الى العكس. أي الى اعتبار أن هذه الحرب هي التي ستجعل الثورة متاحة من جديد. ورغم أن ماركس لم يكن أبداً من المحبين للسلطنة العثمانية وكان متأثراً بثورة اليونان عليها، فإن روسوفوبيته أيام حرب القرم دفعته الى تقريظ الجيش العثماني نفسه في بعض مقالاته! بل ان ماركس كان متوجساً في بداية حرب القرم من أن الانكليز ليسوا في وارد الانخراط بها بجدية. وانهال بالهجاء على جريدة التايمز اللندنية واعتبرها مرتهنة للروس. واستمر موقف ماركس هذا الى مرحلة بعيدة وضد من كان يعتبرهم حلفاء روسيا في البرلمان البريطاني.
وفي 22 يناير 1867 في كلمة له بلندن نصرة للشعب البولوني، شدّد ماركس على أنه ليس ثمة في أوروبا إلا أحد خيارين، فإما البربرية الآسيوية تحت القيادة الموسكوبية كما أسماها، وإما استقلال بولونيا التام. هذا لأجل أن تكون بولونيا هي الحاجز بين أوروبا وبين آسيا. واذا ما أريد لأوروبا أن تلتقط الأنفاس وتنجز فيها عملية التحويل الاجتماعي في المنظار التحرري الذي كان يرجوه، فإن شرط ذلك اقامة هذا الحاجز بين أوروبا وبين روسيا التي تجمع الاستبداد الآسيوي مع الظمأ المتواصل للغزوات، في عرفه.
ثمة في المقابل من يرى، منذ كتاب ثيودور شانين “ماركس المتأخر والطريق الروسية” أن موقف ماركس في المرحلة الأخيرة من عمره تبدّل من روسيا، نتيجة لتراجع انتظارات ثورة كبيرة جديدة في أوروبا بعد هزيمة كومونة باريس، كما نتيجة المراسلة بين ماركس وبين الثوريين الشعبيين (النارودنيك) الروس، الى الدرجة التي يجازف فيها شانين باعتبار فكر هؤلاء الثوريين الروس الداعين الى تفادي روسيا للرأسمالية وإقامة اشتراكية فلاحية تبني على استمرار المشاعة الريفية (المير) قد تحول الى مصدر جديد لفكر ماركس بالاضافة الى الاقتصاد الانكليزي والفلسفة الالمانية والاشتراكية الفرنسية!
لكن الواضح في تلك المرحلة المتأخرة ان ماركس انكب بالفعل على تعلم الروسية، وأخذ يتتبع تحولات الوضع في روسيا وصعود الحركة الثورية فيها، وسعد بترجمة رأس المال الى اللغة الروسية! لم يعد ذلك الروسوفوبي الذي كانه في معظم مراحل حياته السابقة، لكنه في الوقت نفسه كان حذراً بشكل واضح من مغبة اختلاط فكره بالمسيحانية الروسية، بفكرة ان لروسيا رسالة خلاصية للعالم.
رهابه القديم تجاه روسيا تحول في آخر سني حياته الى وعي مأزق حقيقي. فمن جهة، الفكر الثوري حوصر في أوروبا لكنه يجد شكلا جديدا للتنبت في روسيا. لكن من جهة ثانية، يحصل ذلك على قاعدة خطيرة: افتراض ان تحرير روسيا سيجعل روسيا تحرر العالم.
٭ كاتب لبناني
“القدس العربي”