تكشف الحرب التي تشنها روسيا ضد أوكرانيا على معطى رئيسي ومقلق للغاية، وهو عجز الغرب عن مواجهة روسيا عسكريا، باستثناء حالة استعمال السلاح النووي، بينما تبقى العقوبات الاقتصادية، من دون تأثير في البنية الروسية، بل تحمل تأثيرات انعكاسية. والتساؤل المطروح حاليا: ماذا سيفعل الغرب أمام التحالف العسكري الصيني – الروسي؟
بعد ثلاثة أسابيع من الحرب التي تشنها روسيا ضد أوكرانيا، وهي حرب غير قانونية، بل تدخل في خانة الاعتداء على دولة ذات سيادة، على الرغم من المبررات التي تقدمها روسيا بالدفاع عن أمنها القومي، أمام تقدم منظمة شمال الحلف الأطلسي، يتبين كيف يصنع السلاح المتقدم (أي القوة) العلاقات الدولية في هذه الفترة التاريخية.
وجرى الحديث في البدء عن تدخل محتمل لمنظمة شمال الحلف الأطلسي لحماية بلد مرشح لعضوية هذا الحلف، وتم الرفض تحت مبرر عدم عضوية أوكرانيا. وفي خطوة أخرى، جرى الحديث عن فرض منطقة حظر جوي، لمنع الطائرات الروسية المتفوقة من الهجوم على القوات العسكرية الأوكرانية، ثم تكرر الرفض بذريعة تفادي المواجهة مع الروس، حتى لا تقع حرب عالمية ثالثة، وهو المبرر نفسه الذي قدمه الغرب، برفضه نقل طائرات مقاتلة سوفييتية إلى أوكرانيا. والواقع أن الأمر لا يتعلق بتفادي الحرب، فالحلف الأطلسي سبق أن خاض حروبا كثيرة في الماضي. وعلى رأس هذه الحروب الحرب ضد الإرهاب في أفغانستان والتدخل العسكري في صربيا، ثم التدخل للقضاء على نظام معمر القذافي في ليبيا، إبان فترة الربيع العربي، وقبله التدخل الأمريكي في العراق، كما انتقلت قوات أوروبية بقيادة فرنسا إلى منطقة مالي البعيدة عن أوروبا بآلاف الكيلومترات تحت مبرر حماية الأمن الأوروبي من الإرهاب. هذه المرة يتعلق الأمر بالعجز العسكري الغربي على مواجهة روسيا في الوقت الراهن في أوروبا، علما أن الحرب الحالية خطر حقيقي على أوروبا، لأنها تقع في قلبها، وتهدد أمنها مباشرة.
يبدو أن الحرب الأوكرانية ستساهم في تقوية التحالف بين الصين وروسيا، الذي بدأ ينتقل لتحالف استراتيجي يشبه ما بين الولايات المتحدة وبريطانيا
وباستثناء السلاح النووي، لا يمتلك الحلف الأطلسي في الوقت الراهن القوة العسكرية الكافية لمواجهة روسيا بالأسلحة غير النووية، كما لا يمتلك نوعية الأسلحة الكافية لتحقيق، ولو التعادل العسكري مع القوات الروسية. وفي مقال سابق لي في جريدة «القدس العربي»، «ثلاثة أحداث عسكرية دالة» (25 أكتوبر/تشرين الأول 2021)، عالجت كيف تنتج عن اختراعات عسكرية وتحالفات سياسية، معطيات تبصم مستقبل العالم، وجرى التركيز على التقدم العسكري الروسي – الصيني في مجال الأسلحة الدقيقة مثل، الصواريخ فرط صوتية ذات السرعة والقوة التدميرية المذهلة، ثم كيف تصبح هذه الدول تساهم في رسم الخريطة الجيوسياسية المقبلة، إلى جانب القوى الكلاسيكية الغربية مثل بريطانيا وفرنسا والولايات المتحدة. ويعترف عدد من الخبراء العسكريين في الغرب، ومنهم قادة عسكريون سابقون في مراكز التخطيط في الحلف الأطلسي، أو في قيادات الأركان، بأنه لو كان للحلف الأطلسي القوة العسكرية الكافية على إجبار روسيا التراجع عن أوكرانيا، لكان قد طبق ذلك باسم حماية القانون الدولي في أزمة جزيرة القرم سنة 2014، من دون انتظار حرب أوكرانيا الحالية. لكن الحلف الأطلسي لا يمتلك العتاد العسكري الكافي، سواء على مستوى الجيوش الوطنية، أو على مستوى وجود القوات الأمريكية في القارة الأوروبية. ومن ضمن الأمثلة، رغم خطورة الوضع في القارة الأوروبية، توجد حاملة طائرات أمريكية واحدة في المياه الأوروبية، وهي هاري ترومان بالقرب من المياه الإيطالية، وليس في بحر البلطيق حيث الأوضاع مقلقة جدا. وفي حالة تفاقم الأوضاع، وامتدت الحرب الى دولة عضو في الحلف الأطلسي مثل بولونيا، أو رومانيا سيكتفي الحلف الأطلسي بصد القوات الروسية، واعتراض طائراتها وصواريخها، من دون الهجوم عليها في الأراضي الأوكرانية واستحالة شن هجوم على الأراضي الروسية.
وإلى جانب السلاح، يعجز الغرب عن تطويق روسيا بالعقوبات الاقتصادية والمالية، فهذا البلد الكبير يتوفر على ثلاثة عناصر رئيسية وهي: الطاقة، حيث يعتبر ضمن المصدرين الأوائل في العالم للنفط والغاز، علاوة على موارد أخرى من المعادن، ثم يتوفر على الاكتفاء الذاتي في الغذاء، بل تعتبر روسيا عنصرا مهما في الحفاظ على الاستقرار الغذائي في العالم، ويكفي ما يتحدث به العالم الآن عن غلاء الأسعار واحتمال اندلاع «ثورات الجياع» في بعض الدول الافريقية والعربية منها. ويبقى العنصر الثالث هو الاكتفاء الذاتي في مختلف الصناعات من الدفاعية إلى الدواء إلى آليات العمل في المعامل والحقول الزراعية والحياة العامة عموما. بالتالي، مغادرة شركات مثل ماكدونالدز أو ستاربكس أو آبل أو ويسترن يونيون لروسيا لا يعني تأثيرا ملموسا في حياة الناس، لاسيما في ظل وجود السوق الصينية لتعويض الكثير من الواردات من الغرب. وإذا كان الغرب قد فقد قدرة الردع العسكري والاقتصادي أمام روسيا خلال الحرب الأوكرانية، كيف سيكون الوضع في حالة مواجهته الحلف الشرقي المكون من روسيا – الصين الذي يتخوف الغرب كثيرا من تبلوره بقوة أكبر. ويزداد التساؤل القلق في الغرب بسبب الوزن الكبير للاقتصاد الصيني، وهو الثاني عالميا، والقوة البشرية والعسكرية والنفوذ في عدد من مناطق العالم. ويبدو أن الحرب الأوكرانية الحالية، تساهم في تقوية التحالف بين الصين وروسيا، فقد كانت شراكة نوعية، والآن بدأت تنتقل إلى تحالف استراتيجي يشبه التحالف المتين بين الولايات المتحدة وبريطانيا. وتحمل هذه الحرب نتيجة رئيسية وهي عجز الغرب عن مواجهة القوة الروسية المتصاعدة، وأن كل حرب يتحقق فيها الانتصار ستكون بالسلاح النووي، علما أن الحرب النووية المتبادلة لا منتصر فيها. وبالتالي، فهي تمهد لتفاهم جديد بين الحلف الشرقي روسيا – الصين مع الحلف الغربي، لهذا تعد هذه الحرب منعطفا تاريخيا.
كاتب مغربي
“القدس العربي”