طغت الأحداث في أوكرانيا على كل خبر آخر، واستأثرت بانتباه الكثيرين لما مثلته من صدمة على مستوى العالم، الذي تابع باندهاش تقدم الجنود الروس وتجرؤهم على الدخول عبر الحدود الأوكرانية.
بالتوازي مع الأزمة الأوكرانية، كان هناك ملف آخر ذو أهمية عالمية يتحرك ببطء، وهو ملف التفاوض النووي مع إيران. نتيجة هذا التفاوض كان سيتحدد ليس فقط مصير المشروع النووي الإيراني، ولكن وبشكل ما، مصير المنطقة، التي تبدو حتى الآن غير مستعدة لقبول إيران النووية بين جنباتها.
في الثامن من شباط/ فبراير الماضي، لم تكن الحرب قد بدأت بعد، وحينها كان علي شامخاني أمين المجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني، يستبق الجولة الجديدة من المفاوضات النووية بتغريدة قال فيها، إن مهمة المفاوض الإيراني محددة في رفع العقوبات. كان رفع السقف مفهوماً في السياق التفاوضي، ومفهوما كذلك حرص المسؤولين الإيرانيين على التأكيد عليه بالقول، إن أي تفاوض لا يبدأ بهذه المسألة لن يكون محل التفاتهم. ما بين ابتداء جولات التفاوض بشكلها الجاد الأخير في تشرين الثاني/نوفمبر من العام الماضي، وحتى وقتنا الحالي، حدثت تغييرات كثيرة على الساحة الدولية كان أبرزها، التطورات على الساحة الأوكرانية، فعلى الرغم من وجود إرهاصات، إلا أن أحداً لم يتوقع أن ينتج الأمر حرباً حقيقية وشاملة.
لفهم التأثير والتأثر تجدر الإشارة إلى أن روسيا كانت من الموقعين على الاتفاق الأول، كما أنها كانت جزءاً من المفاوضات الحالية لإحياء الاتفاق، جنباً إلى جنب مع الصين ودول أوروبية أخرى. ليس هذا فقط، وإنما كان من المفترض، كأحد الحلول المقترحة، أن يتم تخزين مواد انشطارية لازمة للصناعة النووية في روسيا، ريثما تكمل إيران فترة الاتفاق المنتظرة. اليوم أصبح هذا كله محل شك، فشركاء الأمس الذي كانوا يطلبون تدخل روسيا لتليين موقف أصدقائها الإيرانيين، أصبحوا اليوم في صراع معها، بل دخلوا معها في معارك إعلامية، وجعلوها تتعرض لعقوبات قاسية وغير مسبوقة في تاريخها. من جانب آخر، فإن التهديد الذي مثلته روسيا باجتياحها أراضي أوروبية، جعل كثيراً من الدول أقل عزماً على الضغط على إيران، التي يمكن أن تكون بديلا مناسباً لموارد الطاقة الروسية، التي تمثل نقطة ضعف أساسية بالنسبة للمحور الغربي الذي اصطف في الخندق الأوكراني.
التهديد الذي مثلته روسيا باجتياحها أراضي أوروبية، جعل كثيراً من الدول أقل عزماً على الضغط على إيران، التي يمكن أن تكون بديلا مناسباً لموارد الطاقة الروسية
حينما كانت إيران تتحدث عن الرفع التام والمسبق للعقوبات، وهي الفكرة التي تمحورت حولها جولة المفاوضات الأخيرة، كانت في الغالب تدرك أن هذا الطلب تصعب الاستجابة إليه، خاصة أن هناك تضييقا وعقوبات لا علاقة لها بالاتفاق النووي، وإنما ترتبط ببنود أخرى كحقوق الإنسان، لكن التطورات الأخيرة جعلت هذا المطلب قابلا للمناقشة، حيث تغيرت قواعد اللعبة وموازين القوى بشكل غير متوقع، فما عادت إيران هي الدولة الوحيدة التي يتعرض اقتصادها للانهيار، وإنما دول أوروبية أساسية كفرنسا وألمانيا، اللتين تورطتا في معركة لم تكونا جاهزتين لها. هذا يقودنا إلى أن نفهم أن التصريحات التي تتحدث عن قرب التوصل لاتفاق قد يكون المقصود بها إعادة العمل بالنسخة الأولى من الاتفاق، التي تفتح لإيران كثيراً من الأبواب الاقتصادية والمالية المغلقة، عبر ما نصت عليه مما يمكّن إيران من الحصول على مبالغ مالية كبيرة كانت محتجزة لسنوات، وعلى حرية أكثر في تصدير مواردها.
في الفترة السابقة كانت هنالك خشية من استيعاب إيران بشكل كامل كشريك في حركة التجارة العالمية، لأن ذلك يعني استيعابها في تجارة السلاح أيضاً، وهي نقطة تثير الكثير من المخاوف لدى أطراف تخشى أن تستفيد إيران من ذلك في التوسع في تصنيع الأسلحة الفتاكة، وفي بيعها لجهات معادية لها، خاصة أن عمليات إيران العسكرية الخارجية، على غرار الهجمات الأخيرة على مدينة إربيل، لم تتوقف.
مع التغيرات الجيوسياسية الماثلة حالياً، يرى مراقبون أنه ربما يتم غض الطرف عن ذلك، على اعتبار أن هناك من التهديدات ما هو أهم وأكبر تأثيراً في الاستقرار العالمي من الهجمات الإيرانية. هنا نقطة خلاف أساسية مع الحلفاء في المنطقة، فما يعتبره الغربيون تجاوزات محدودة، تتعامل معه دول كالسعودية والإمارات كمهدد أساسي لأمنها واستقرارها. الحقيقة هي أن، الغرب لم يكن حاسماً منذ البداية في الملف الإيراني، كما لم تكن رؤاه موحدة، وكان مختلفاً ما بين الولايات المتحدة المترددة في الذهاب إلى مستوى أبعد من العداء مع إيران، بشكل قد لا يبقي لديها ما تخسره، والدول الأوروبية التي أبقت على دعمها للاتفاق وتابعت عملها المزدوج كشريك ووسيط في الوقت ذاته لتقريب وجهات النظر بين الإيرانيين والأمريكيين.
الحرب الأوكرانية لم تفعل سوى أن زادت هذا الموقف ضعفاً وسيولة، سواء بالنسبة للأمريكيين الذين اهتموا بالتحشيد ضد التمدد الروسي أو بالنسبة للأوروبيين الذين زادت رغبتهم في إنجاح الاتفاق للخروج من مأزق الطاقة الحالي المتشابكة مع حالة الركود الاقتصادي التي تسببت فيها، من ضمن عوامل أخرى، جائحة كورونا.
البحث عن بديل للغاز والبترول الروسي، أصبح هدفاً استراتيجياً للمجموعة الغربية التي كانت معتمدة بشكل كبير عليه، ولأن هذا الأمر يحظى بأولوية، فإن إيران الغنية بموارد النفط والغاز ظهرت كبديل مناسب، لكنه بديل لا يمكن الاستفادة منه ما لم يتم إنجاز الاتفاق النووي. الأزمة الأوكرانية أظهرت كذلك تباين المصالح بين كل من روسيا وإيران، وهما الدولتان اللتان عملتا، على الأقل خلال العقدين الأخيرين، بتنسيق كبير، ففي حين أصبحت الأولى محاصرة بفعل العقوبات الأخيرة، كانت الثانية تتطلع للخروج من عزلتها التي امتدت عقودا طويلة. هذا جعل دور روسيا في العملية التفاوضية محل شك، حين أظهرت أنها تريد أن تتحكم في مسار التفاهمات الجديدة، بحيث لا تكون على حساب مصالحها، أو أن يتم سحب إيران بموجبها إلى الطرف الغربي، من هنا نفهم مطالبة الروس بتعهد لضمان حرية التجارة بينها وبين إيران بغض النظر عن أي عقوبات.
حتى اليوم تبدو روسيا مصرة على مطلبها هذا من أجل التوقيع على الاتفاق، هذا الإصرار لا يغضب فقط الشركاء الغربيين، ولكنه يغضب إيران نفسها التي هي أحوج ما تكون للتحرر من قيود العقوبات، كما قد يغضب هذا التعنت شريكتهما الثالثة الصين، التي هي مرتبطة مع إيران باتفاقات شراكة اقتصادية يتوقع أن تدر مليارات الدولارات إذا ما تم إحياء الاتفاق. الحديث عن إحياء غير مشروط للاتفاق النووي يقلق طرفاً آخر هو الكيان الصهيوني، الذي كان يدرك معنى أن تعمل طهران بلا اتفاق أو قيود على نشاطاتها، لكنه كان يحاول الضغط في سبيل إيجاد صيغة مرضية وكفيلة بحمايته من أي خطر محتمل. الفرضية المقلقة الثانية هي أن تصنيف الموضوع الإيراني كموضوع بأهمية ثانوية تحت وقع تفاعلات الساحة الأوكرانية، قد يعني بُطئاً في العملية التفاوضية وهو بطء تستفيد منه إيران التي سيكون بإمكانها تخزين المواد الانشطارية بحرية وصولاً لإنتاج القنبلة النووية، وفق مدى قد لا يتجاوز أسابيع حسب تقديرات إسرائيلية. في هذا المناخ المتوتر يصبح الخيار الذي يلوح به الإسرائيليون كثيراً والمتمثل في توجيه ضربة كفيلة بإنهاء طموحات طهران النووية أخطر من أي وقت مضى.
كاتب سوداني
“القدس العربي”