أول المغادرين غير المأسوف على مغادرتهم للساحة السياسية الدولية والإقليمية ذلك الإسرائيلي الفاسد إيهود أولمرت ، الذي دخل ميدان الفعل السياسي في الشرق الأوسط بغفلة سياسية ذات طابع تراجيدي ، وخرج منه إثر فضيحة بجلاجل ذات صبغة درامية سياسياً وعسكرياً وأخلاقياً . ففي عهده تكاثرت الدماء على جدران غزة والضفة ، وضيق الحصار خناقه على أطفالهما أكثر فأكثر ، حتى تكاد الحياة تصبح مستحيلة . وفي عهده كشرت الصهيونية عن أنيابها العشرة بإعلان هدفها ببناء دولة يهودية صافية في المنطقة ، وتحويل إسرائيل إلى تلك الدولة . مع ما يعنيه ذلك من عنصرية تجنب إظهارها ( على هذا الشكل الفج والوقح ) كل من اليمين واليسار اللذين تناوبا على حكم الدولة الإسرائيلية منذ نشوئها ، وما يمكن أن يستولده من مخططات ومشاريع تطهير عرقي وتهجير تطال العرب الفلسطينيين من جديد . وإضافة إلى ما يحتويه هذا المشروع من مخاطر على القضية الفلسطينية برمتها ، فهو يحمل معالم معاناة كارثية لعرب 1948 الذين يقارب عددهم المليون نسمة .
أما المغادرة الثانية فسوف تكون من نصيب الرئيس الأمريكي ، الذي جدد سكناه في البيت البيض لأربع سنوات أخرى بعدد قليل من الأصوات مشكوك بصحتها أصلاً . وكائناً من كان الساكن الجديد في البيت الأبيض جمهورياً أم ديمقراطياً ، فإن مغادرة استراتيجيات وسياسات المحافظين الجدد الذين اعتمد عليهم الرئيس بوش الابن ، وتوالوا على مغادرة السلطة تباعاً إثر استغراقهم بالفشل وإغراق الولايات المتحدة والعالم أجمع بنتائجه تبدو مؤكدة وواضحة .
نعم يغادر رئيس لدولة عظمى علمانية وديمقراطية ، هو مزيج من الخرافة والتعصب الديني والدونكيشوتية مع مقدار من الغطرسة والتهور والغرور زائد عن اللزوم . يغادر مسرح السياسة الأمريكية وبالتالي الإقليمية والدولية مثقلاً بآثار الهزيمة السياسية والانتكاسة العسكرية والكارثة المالية وبالتالي الاقتصادية التي فجرها في الولايات المتحدة وفي أسواق المال العالمية والحبل على الجرار . وبجردة سريعة للعناوين الرئيسة لسياسات بوش ومشروع حكمه خلال السنواث الثماني الماضية تظهر الفضيحة العارية لحصاد استراتيجياته المعتمدة وسياساته المطبقة في غير مكان من العالم .
إقامة نظام عالمي جديد – نشر الديمقراطية في الشرق الأوسط – تحقيق وجود الدولة الفلسطينية القابلة للحياة قبل نهاية 2008 – إقامة عراق ديمقراطي مستقل ومزدهر – " محاربة الإرهاب والقضاء عليه " . . . إلى آخر تلك العناوين . وليس للمراقب المحايد إلا أن يرى فوضى السياسات المتناقضة وركام القرارات والإجراءات المتخذة دون أي طائل إيجابي ، والتي أدت إلى إثارة المشاكل الجديدة دون التمكن من إدارة الموجود منها وحلها بحكمة . وإشعال نيران النزاعات دون التمكن من إخمادها . وإثارة أحقاد جديدة دون السعي لإزالة القديم منها أو التخفيف من آثاره الضارة . ولو كان بين جوائز نوبل واحدة لإقلاق راحة العالم وزعزعة استقراره وتخريب العلاقات بين شعوبه ، لما وجدت الأكاديمية السويدية أجدر من الإدارة الأمريكية المنقضية ولايتها وأحق منها بنيل تلك الجائزة . وإنجازاتها على هذا الصعيد أكثر من أن تحصى :
<!–[if !supportLists]–>– <!–[endif]–>ضرب العمل السياسي والدبلوماسي لصالح المغامرات العسكرية والمسلحة .
<!–[if !supportLists]–>– <!–[endif]–>تجاهل التحالفات القائمة ومصالح الآخرين لصالح التفرد والمصالح الخاصة والقوة العارية .
<!–[if !supportLists]–>– <!–[endif]–>إيقاظ الحرب الباردة من رقادها أو إنعاش مولداتها بقصد أو بغير قصد .
<!–[if !supportLists]–>– <!–[endif]–>إفقاد السياسة مصداقيتها وأخلاقيتها عبر الكيل بمكيالين والتصرفات الاستنسابية .
<!–[if !supportLists]–>– <!–[endif]–>تدمير استقلال الشعوب وحريتها تحت عنوان الديمقراطية .
<!–[if !supportLists]–>– <!–[endif]–>التحكم بالاقتصاد العالمي وفق مصالح الآلة الاقتصادية الأمريكية وأصحاب النفوذ فيها .
<!–[if !supportLists]–>– <!–[endif]–>النوم على فساد عميق ومتسع لم يعد من الممكن إخفاؤه .
<!–[if !supportLists]–>– <!–[endif]–>تسعير الإرهاب وإيقاظ أشكاله الطائفية والمذهبية تحت عنوان محاربته .
<!–[if !supportLists]–>– <!–[endif]–>تهميش دور هيئة الأمم المتحدة وتسخيرها لخدمة السياسات الأمريكية اليومية والصغيرة .
من المؤكد أن العالم سيكون أفضل بغياب الإدارة البوشية لأمريكا . وسوف يصبح أكثر أمناً وعقلانية ورحابة بالنسبة للشعب الأمريكي ولبقية شعوب العالم . وأول من يعبر عن ذلك هم الأمريكيون أنفسهم . ليس في القاعدة الشعبية فحسب ، إنما بين النخب السياسية والثقافية والإعلامية وفي الكونغرس أيضاً .
الرابع من تشرين الثاني القادم موعد واعد لولادة إدارة أمريكية جديدة ، تعيد النظر بأشياء كثيرة ، وتزيل آثار الحماقات التي طال احتمالها . على أمل أن ترسي علاقات دولية تأخذ الآخر ومصالحه بعين الاعتبار ، وتتمتع بما يكفي من الحكمة لإرساء الديمقراطية وإقامة السلام العالمي القائم على الحق والعدل .
هناك مغادرات أخرى منتظرة في لبنان وفي إيران ، يؤمل أن تسهم في استقرار المنطقة وإدخالها مدخلاً جديداً ينقذها من مخاطر التعصب والإرهاب والحروب .
في ثقافتنا الشعبية يكسرون جرة خلف الذاهب غير المرغوب ببقائه تيمناً بكنس آثاره . وقد كسرنا جرة كبيرة خلف أولمرت . وسوف نكسر جرة مماثلة ( ويكسرها معنا كثيرون ) خلف جورج بوش .
أما الجرار الكبيرة الكبيرة فتلك التي نعدها لتكسر خلف السلطات العربية التي مازالت الشعوب تشتهي غيابها منذ سنين بل عقود طويلة ، وفات أوان مغادرتها أكثر مما يجب . عندها فقط ترتاح شعوبنا ، وتمني النفس بآفاق جديدة للحياة الحرة الكريمة حين تتخفف من همومها ومشاكلها دفعة واحدة بكسر جرة كبيرة وراء سلطان جائر .
21 / 10 / 2008
هيئة التحرير