قُتلت شيرين أبو عاقلة، صباح يوم الأربعاء الفائت، على أرض مدينة جنين الفلسطينية؛ وكانت قد وصلتها كي تغطي، لصالح فضائية «الجزيرة» عملية اجتياح أحد أحياء المدينة من قبل قوة تابعة لجيش الاحتلال الإسرائيلي. لقد سقطت بعد أن اخترقت خوذتَها رصاصةٌ أطلقها قناص إسرائيلي، تعمّد وفقاً لجميع البراهين والقرائن والأدلة، قتلها. ومنذ انتشار نبأ الفاجعة تحاول إسرائيل التهرب من مسؤوليتها عن عملية اغتيالها، بيد أن شهادات العديدين من شهود العيان الذين كانوا على مقربة منها وفي مكان الجريمة، تؤكد أن عناصر جيش الاحتلال هم من أطلقوا النيران باتجاهها وتسببوا بقتلها.
من الواضح أن إسرائيل ستحاول، بشتى الوسائل والادعاءات، التملص من تبعات هذه الجريمة؛ لاسيما بعد أن شاهد زعماؤها ردات الفعل الجماهيرية الغاضبة التي اجتاحت، لا ساحات فلسطين وحسب، بل الكثير من مدن وعواصم العالم؛ وسمعت سيل شجوبات المسؤولين السياسيين في العديد من الدول العربية والغربية، على حد سواء، واستنكارات رؤساء معظم المؤسسات الحقوقية والمدنية في المجتمع الدولي.
من السابق لأوانه أن نتكهن كيف ستتداعى فصول هذه المأساة، بعد أن تجف الدموع في المآقي، وعند وقوع الفاجعة المقبلة؛ ولكننا، رغم رجوح التوقعات بأن «ضمير العالم» الغائب عن فلسطين المحتلة منذ عقود لن يصحو بسبب ولادة أيقونة فلسطينية جديدة، سوف تبقى مشاهد آلاف المواطنين، وهم يجتاحون شوارع وميادين المدن الفلسطينية، مدعاة للدهشة، ووقودا يتخزّن في مراجل شعب انتفض باكيا على ما كانت شيرين أبو عاقلة تعنيه في حياتها بالنسبة لهم.
لم يكن سهلا عليّ أن أستوعب حجم ردّات فعل الناس وحزنهم المتهاوي بعفوية صادقة منذ شيوع نبأ الوفاة؛ خاصة أن فلسطين متمرسة بتوديع شهدائها، ومنهم من سقطوا وهم يؤدون واجبهم الإعلامي. في البداية عزوت حالة الكآبة الشديدة التي أصابتني وأقعدتني، طيلة ذلك النهار، في البيت، إلى كوني أعرف شيرين شخصيا، منذ بداية عملها الصحافي، وقيامها بتغطية العشرات من القضايا التي تابعتها في مسيرتي، وإلى تراجيدية موتها؛ لكنني سرعان ما تنبهت إلى أن القصة ليست أنا ولا هم، بل هي شيرين: تلك الفتاة المقدسية الوادعة التي كبرت على طريق الآلام، وكيف أسكنها الناس في عيونهم، وكيف عاشت بهدوء في قلوبهم. لم تكن مشاهد العزاء ووداع الجثمان في جنين ونابلس ورام الله والقدس وغيرها من المواقع، هنا وفي الخارج، متوقعة ولا مسبوقة أو مفهومة ضمنيا، خاصة إذا تذكّرنا أن الضحية هي صحافية وأنثى ومسيحية. قد يحسب، في عرف العادة، جميع الشهداء سواسية في الرحيل وفي القصيدة والدعاء، ولكن ليس في فلسطين، فحين ينهمل الدمع من عيون الأمهات الماجدات الصابرات في أزقة مخيم جنين على فراق «حفيدة المريمات» تمّحى كل المسافات وتصبح شيرين الفلسطينية خنجرا من نور مغروس في خاصرة القهر. وكذلك عندما يسير الرجال وراء رايات وصور «أخت انطون» هاتفين لروحها الطاهرة، ترقص النجوم في سماء الشرق وينخرس الجهل؛ وعندما يحكي الشيخ الثقة كيف بكت اخته رحيل شيرين الأيقونة، تخاف الشياطين ويصحو في فلسطين شعب الجبارين.
حين ينهمل الدمع من عيون الأمهات الماجدات الصابرات على فراق «حفيدة المريمات» تمّحى كل المسافات وتصبح شيرين الفلسطينية خنجرا من نور مغروس في خاصرة القهر
إنّهم، في إسرائيل، يخافون هذا العرس؛ بينما يحسب حلفاء إسرائيل، من عرب ومسلمين وغرب، حساباتهم، ويخشون أن تنفجر الحناجر وتصير مناجل، والأكف أبسطة من ريح. تتحدث الأخبار عن أن جهات دولية عديدة توجهت إلى حكومة إسرائيل وطالبتها بضرورة إجراء تحقيق في حادث مقتل شيرين أبو عاقلة ونشر نتائجه علنا. وقد ذكرت المواقع موقف الخارجية الأمريكية التي قال متحدثها الرسمي في تغريدة له: «نشعر بالحزن الشديد، وندين بشدة مقتل الصحافية الأمريكية شيرين ابو عاقلة، في الضفة الغربية. يجب أن يكون التحقيق فوريا وشاملا ويجب محاسبة المسؤولين». لا أثق بجميع هذه البيانات التي تمليها قواعد البروتوكولات الدبلوماسية وحاجة بعض الزعماء لتخدير شعوبها، لاسيما أولئك الذين يتشدقون بدفاعهم عن الحريات الأساسية، وبضمنها حرية الصحافة وسلامة الصحافيين. وكي لا نطيل الحديث في هذه الجزئية، يكفينا أن نستحضر موقف الإدارة الأمريكية إزاء مقتل المسن المواطن الفلسطيني عمر أسعد، قبل أربعة شهور بالتحديد، ومطالبتها إسرائيل بالتحقيق في الحادث ومحاسبة المسؤولين عنه. فحينها، وعلى أثر افتضاح وقوع تلك الجريمة، أعلن الناطق باسم وزارة الخارجية الأمريكية، أن «الوزارة على دراية بموت الفلسطيني الأمريكي عمر أسعد، الذي يبلغ من العمر ثمانين عاما، بعد اعتقاله وتكبيل يديه، على أيدي سلطات الاحتلال الاسرائيلي.. لقد وجهت استفسارا إلى الحكومة الإسرائيلية بشأن ملابسات وفاة عمر أسعد ونحن بانتظار الرد».
هل تتذكرون تفاصيل تلك المأساة؟ لقد مرّت أربعة أشهر عليها ولم تتخذ أمريكا أية خطوة باسم الحقيقة، أو دفاعا عن حقوق مواطنيها، فهل هناك من يعتقد أن هذه الأمريكا سوف تغيّر جلدها وتتحرك بسبب اغتيال أيقونة فلسطينية اسمها شيرين، فقط لأنها تحمل الجنسية الأمريكية أيضا؟ لو سئلت لنصحت أصحاب المصلحة والشأن بأن يرفضوا كل محاولات إقامة أية لجنة تحقيق، ولنصحت في الوقت نفسه بإعداد ملف فلسطيني يوثّق لعملية الاغتيال بصورة مهنية ومتكاملة، والذهاب فيه إلى المحاكم الدولية والأمريكية؛ فمجرد القبول بفكرة إقامة أية لجنة تحقيق سيثير الشك في هوية القاتل، وهم عناصر جيش الاحتلال، ويضعضع صحة الرواية الفلسطينية، وهي واضحة وضوح الدم الذي سال من رأس شيرين.
أصغيت لعشرات المواطنين والمواطنات الذين شرقوا بدموعهم وهم يحاولون أن يصفوا مزايا شيرين التي عرفوها؛ وسمعت شعراء حوّلوا حزنهم عليها شعرا يبكي «العكاز والحجرا» حتى جاءت ابنة مخيم جنين السيّدة أم أحمد فريحات، ولخصت لنا أهم فصول هذه الحكاية؛ فشيرين، كما حكت دموع الناس، كانت واحدة من أهل هذه الأرض، إلى جانبهم ساعة يخوضون معاركهم، وتنبش، مثلهم، بأظافرها، الأنقاض لتخرج ضحاياهم من تحتها. وكانت تعطش مثل أفقر وأصلب البسطاء ولا تجد نقطة ماء لتشربها، وتلتحف ترابهم برضا وتحتضن أوجاعهم وتنام، جنبا إلى جنب، على شوكهم. كنت أسمع أم أحمد بصمت باك، وبجانبي تجلس ابنتي وصديقاتها، وقد «تولى الدمع عنهن الجوابا» فلما هتفت أم أحمد «من جنين الأبية طلعت شمعة مضوية/ يا شباب الله الله، هاي شيرين مش حيا لله» نظرت نحوهن وسألت ابنتي، لماذا هي بالذات؟ ماذا كانت تعني لكنَّ؟ حبست أنفاسها برهة؛ ثم انطلقت وكأنها تستعيد ماضيا يسكنها بين الجفون، فقالت: «إنها أيقونة جيلنا؛ لقد وعينا على طلّاتها كفرس أصيلة تتنقل من موقع إلى آخر وهي محملة بهم فلسطيني صادق. كانت صحافية مهنية من دون ابتذال، وكان الحزن في عينيها رسائل وفاء تنقلها باسم كل حر ومقاوم لظلم الاحتلال. فلسطينية من دون نواقص ولا زوائد، حتى أننا لم نكن، قبل استشهادها، نعرف أنها قد ولدت في عائلة مسيحية». قالت هذه الجملة بصوت خافت وكدليل على أصالة شيرين، وصمتت ثم أكملت: «كما أنها كامرأة كانت لنا قدوة في الشجاعة وفي كبريائها الواثقة.. لقد كنا مرارا نقف أمام مرايانا ونقلدها ممسكين ميكروفونا وهميا ومرددين: «معكم شيرين أبو عاقلة، الجزيرة، من القدس المحتلة»؛ ثم أنهت وقالت: «كنا، أنا وأبناء جيلي، إناثا وذكورا، نحلم أن نصير مثلها». وتمنت، بصوت مخنوق، ألا يذهب موتها سدى وتمتمت من قصيدة الشاعر درويش: «تُنسى كأنك لم تكن/ تُنسى كمصرع طائر/ ككنيسة مهجورة تُنسى/ كحُب عابر، وكوردة في الليل… تُنسى». وبكت.
للحقيقة، أنا أيضا أخاف من الآتي، وأشك في ما إذا سيؤدّي موت شيرين إلى تغيير في سياسات الدول تجاه الاحتلال الإسرائيلي وموبقاته، أو إلى هزة في وسائل الإعلام العربية والعالمية، أو حتى إلى الكشف عن القاتل؛ لكنني على ثقة أن ما شاهدناه، بعد موتها في فلسطين وغيرها، سيبقى نذورا مدفونة في الصدور وفي الأرض ولسوف يصير ذات فجر وعودا وعواصف مهما طال ظلم وظلام الاحتلال وطفَح بطشه.
كاتب فلسطيني
“القدس العربي”