ما حدث للشعب السوري من عملية قتل مُنظَّم على يد العصابة الكيماوية الحاكمة، لا يمكن إيجازه في اللغة، وربما في العواطف أيضاً، ولعلَّ ما تكشَّف من مجازرَ وقبورٍ جماعية خلال العقد المنصرم، هو أقل بكثير مما تمّ طمسه على يد هؤلاء القَتَلة الذين أدخلوا سورية وشعبها إلى هاوية لن يكون من السهل الخروج منها.
ولكن في جانب آخر من الكارثة المهولة هذه التي قد تكون أَتَمّت الثلاثة ملايين من الضحايا، ثمة تفاصيل دقيقة كان على أحد ما أن يشير إليها منذ البداية، تُعنى بالمسؤولية غير المباشرة “وربما المباشرة” في مشاركة النظام المجرم بقتل السوريين وتمزيق البلد.
أي ثمّة نقطة صفر من الضروري العودة إليها، حيث يتم البحث في أسباب هزيمة الثورة وفشلها في إنجاز واحدة فقط من المهام التي قامت عليها، وعلى شعاراتها التي نادى بها من شاركوا في التظاهرات التي عمَّت كل مدن سورية.
حول نقطة الصفر هذه تدور إشارات استفهام لابد من الوقوف عندها، والبحث فيها اليوم بالذات
قبل أن يمضي عقد آخر هباءً دون إنجاز ولو قسط من مكاشفة سوريّة عامة حول ما حدث.
هل كان الشعب السوري قادراً فعلياً على إنجاز مشروع تحرري، وهو الذي خرج للتوّ في2011 من عملية إفقار سياسي واجتماعي على مدى ستة عقود؟
هل لديه من الوعي السياسي والاجتماعي ما يكفي لكي يكون محصّناً من التجاذبات العقائدية المستحكمة في هوياته الداخلية المادون وطنية؟
لماذا شاركت النُّخب، المفترضة، في توريط السوريين بلعبة دموية على وعود رومانسية عبر خطابات الشحن والتعبئة التي كان أبسطها ما ردده الشارع السوري على طريقته بذهابه إلى الجنة بالملايين؟
هل كانت الهويات السوريّة الداخلية المادون وطنية تدرك أن التغيير الذي تبحث عنه، يعني في المقام الأول تفكيكها، هي ذاتها، وصهرها في بوتقة مدنية، أو أنها تعلم جيداً أن المدنية خطر أكثر من النظام يهدد سطوتها وسلطتها المباشرة على أبناء كل هوية؟
هل توافرت حالة واحدة من إدارة بديلة للمناطق التي خرجت عن سيطرة النظام أنتجها المجتمع المحلي في هذه المناطق أم أن السلطة، كانت هاجساً لدى مَن تولّوا إدارة المناطق، فما استطاعوا أن يهيّئوا أرضية صلبة لبناء ديمقراطي، يفترض به أنه أحد أعلى الشعارات التي نُودي بها؟
قد تكون التساؤلات الشخصية والعامة غير ذات جدوى في ظل انعدام الفرص، تقريباً، لإيجاد حل للمأساة السورية، ولكنها ملّحة بذات الوقت في ظل تصلّب منتسبي التابوهات الداخلية بعد هذه المأساة، وما رافقها حتى اليوم من فوضى عامة، ولجوء بعض منهم إلى الميليشيوية لحماية الهوية أو الجماعة بل والطائفة كذلك.
لأن المقدمات الطبيعية للتغيير لازالت بعيدة عن متناول العقل السوري العام، الذي غرق في الرومانسية الثورية أو تم إغراقه بها.. لا فرق، وأوصلته هذه الرومنسية إلى حفرة عميقة، ليست مجزرة التضامن المروّعة، بحفرتها الرمزية، إلا وجهاً بسيطاً من وجوه الكارثة.
وإن كان ثمة فكر صاعد ومختلف، قد أبصر النور في الأشهر الأولى من الثورة السورية، وكان يمكن له أن يؤثّر في الشارع الثائر، فإن الرصيد اليوم هو صفر، وإن توفرت نسبة مئوية ما منه فهي غير قادرة على التأثير في الشارع السوري الذي انشغل أكثر فأكثر في خبز يومه، وصار يتعاطى “القضية” كما أي فعلِ اعتيادٍ، إن لم يكن بغرض التسلية.
ولعل ملف عسكرة الثورة على اعتبار أنه الذريعة التي استخدمها النظام لتدمير المدن السورية “وهو في الأصل ليس بحاجة لذريعة” يجب البحث فيه واسعاً ومطولاً عبر أكاديميين متخصصين وبمنتهى الحيادية، بموازاة تقصّي ومطاردة مجرمي الحرب لدى النظام السوري.
فلا يوجد حالة شبيهة إلا لدينا، يهرب فيها آلاف الضباط المنشقين، ليتمّ حشرهم في مخيمات تركيّة حدودية شديدة الحراسة، في حين أن الشرف العسكري لهؤلاء، والذي دفعهم للانشقاق، يقتضي البقاء في المناطق التي تمت السيطرة عليها، وتشكيل جيش وطني بديل، يمارس الكفاح المسلح طالما أن العسكرة قد صارت أمراً واقعاً، وليس إخلاء الساحة للأصوليات الدينية التي وجدت لها أرضاً عقائدية خصبة لدى كثير من السوريين، على زعم “صار فيما بعد أشبه بالثقافة” بأنه نزاع ثأري علويّ-سنّي، كان للبترودولار السنّي الخليجي بالغ الأثر في تعويمه، ومن ثم تمويله عبر فصائل تقلّب كثير منها كجيش حرّ إلى ما يشبه العصابات المأجورة التي تتلقّى الأوامر من الممول والمانح، حتى لو كانت ضد مصالح السوريين، “ومتى كان السوريون يحفلون بالسوريين؟”.
ستكون قاسية، هي المكاشفة السورية التي يجب أن تبدأ سريعاً بين الجميع، وألّا تُمارسَ الألاعيب والأكاذيب؛ لأن الحقيقة هي الحرب المجدية مع هذا النظام المجرم، ولا ريب أخذ كثير من السوريين في دول الشتات واللجوء على عاتقهم هذه المهمة، فكان أن أفضى سعيهم إلى كشف حقيقة هذا النظام، لدى الرأي العام المحلي الأوروبي، إلى محاكمات وملاحقات لمجرمي الحرب الذين تسلّلوا بين صفوف اللاجئين.
والمكاشفة عليها ألّا تخجل من الإشارة إلى مواضع الخلل في الحالة الاجتماعية السورية، وإلى موانع التغيير لديها، وإلى الخطوط الحمر الغليظة التي تتحصّن بها الهويات السورية المتناقضة “والمتعادية أحياناً”، ولتقل كلمتها الفصل في مدى رغبتها بأي تغيير مستقبلي كون هذه المرحلة الدموية، لم تُبقِ من قدرة لدى السوريين على النهوض مجدداً ومواصلة الكفاح، أو لتقل الحقيقة المفجعة من أن، حتى الحالة اللبنانية بعد اتفاق الطائف بما فيه من تحاصص طائفي في السلطة، سيكون حلماً بعيد المنال عن الهويات السورية.
رغم أن إجرام هذه العصابة فاق حتى طباع النازية في القتل والإلغاء، ورغم مسؤوليته الكلية عمّا حدث للناس، ولكن لِيُشِر أحد ما إلى الكوارث الصغيرة المتعاقبة التي تراكمت تباعاً في الثورة منذ أيامها الأولى، وقدّمت للنظام الوحشي فرصة أخرى، بعد مذبحة حماة، كي يزهق دماء الناس بلا أي ثمن حقيقي أو حتى نصف مكسب تفاوضي منه.
قد تكون مجرد الإشارة هذه اليوم، فرصة مستقبلية لعدم العبث بدماء الناس مستقبلاً.. قد..
* كاتب سوري- النمسا