يلاحظ كثير من مثقفي جيلي YوZ، وهما الجيلان اللذان ولدا بعد التحولات البنيوية التي شهدها العالم منذ أواخر سبعينيات القرن الماضي، أن حياتهم تفتقر إلى كثير من الامتيازات التي نالها آباؤهم، خاصة إمكانية إيجاد عمل ثابت، بحقوق مضمونة، يمكّنهم من الاستقرار الاجتماعي، وحيازة الحد الأدنى من الملكية، سواء كانت مالية أو عقارية.
يعيش كثير من أبناء هذين الجيلين وحيدين، يتنقّلون بين أعمال غير مستقرة، ويبذلون جهوداً هائلة، في التحصيل العلمي والتدريب المهني وساعات العمل الفعلية، لينالوا ما هو أقل بكثير مما ناله آباؤهم بجهد أدنى. إلا أنهم في الوقت نفسه يتمتعون بحريات لم تخطر على بال الأجيال السابقة: الوصول السهل والسريع لمصادر المعلومات؛ التواصل الحر غير المحدود جغرافياً؛ تقرير المصير الفردي، ليس فقط في ما يتعلّق بالميل الجنسي، أو الأداء الجندري، بل أيضاً في القدرة على التحلل من كل رابطة اجتماعية غير اختيارية، مثل الدين والعائلة والقومية. يصوغ أبناء الجيلين المذكورين هوياتهم الفردية، بما يبدو استقلالاً أكبر، وربما يكون هذا جوهر حرياتهم.
التناقض بين حريات فردية أكثر وحقوق اجتماعية أقل، طبع وعي كثير من الأفراد، الذين بدأوا حياتهم العملية والمهنية مع الأزمة المالية العالمية عام 2008؛ أو الذين كانت الأزمة إحدى أولى ذكرياتهم عن الحياة العامة. كثيرون أرادوا الاحتجاج، محاولين «احتلال» الساحات العامة مع مطلع العقد الماضي، إلا أن التناقض المذكور ربما يكون قد لعب دوراً معرقلاً لفعالية احتجاجهم. انتهت حركات مثل «احتلوا وول ستريت» في أمريكا و«غاضبون» في إسبانيا، دون أن تترك أثراً كبيراً، لفشلها في تقديم البدائل، وبناء هياكل تنظيمية صلبة قابلة للاستمرار، وكثير ممن شاركوا بها يبحثون اليوم عن «مساحات آمنة» قد تحافظ على ذواتهم من الضغوط الاجتماعية والاقتصادية الكبيرة، فيما وُسِمت معظم الحركات الاحتجاجية اللاحقة، مثل «السترات الصفراء» في فرنسا، باليمينية أو الشعبوية.
يمكن القول، إن التفكير «التقدمي» حالياً انتقل من السعي الإيجابي للتغيير، إلى محاولة حماية الذات الفردية، المذعورة دوماً من آخر ما يهدد حرياتها: الشعبويون واليمينيون المتطرفون؛ الرجال البيض المتحيزون جنسياً، الذين يعانون من كل أشكال «الرُهاب»؛ وأخيراً الأنظمة الاستبدادية الشرقية، وعلى رأسها روسيا، التي يبدو أن المعركة معها في أوكرانيا قد وحّدت «التقدميين» وأعداءهم من «الرجال البيض» في خندق واحد، هو حلف الناتو غالباً. إلا أن مواجهة المستبدين والشعبويين، من أعداء الحريات، تطرح سؤالاً ملحاً عن الحريات نفسها، المراد حمايتها، وجعلها تتقدم شرقاً في أوكرانيا وغيرها: هل تشكّل ثنائية حضور الحريات الفردية، وغياب الحقوق الاجتماعية أساساً صالحاً لتوسيع النموذج الليبرالي الغربي، الذي يبدو أنه يعيش اليوم إحدى أعمق أزماته؟ يغدو السؤال أكثر تعقيداً مع الانهيارات الاقتصادية المرافقة لانتشار وباء كورونا، ومن ثم الحرب الأوكرانية: ماذا سيفعل أبناء الجيلين المذكورين بـ«حرياتهم» المُعاشة أو المنشودة، وسط التضخّم والأزمات التي لا تنتهي؟
المعركة «من اليسار»
قد يكون سلافوي جيجيك من أهم من ينظّرون حالياً لإمكانية حرب عادلة على أساس قيم الغرب الليبرالية، لكن من منظور يساري، فبالنسبة للفيلسوف السلوفيني، في مقالة نشرها في جريدة «الغارديان» البريطانية، هنالك طريقتان للنظر إلى الحرب الأوكرانية: وجهة النظر اليمينية، التي ترى أن أوكرانيا تحارب من أجل القيم الأوروبية، ضد السلطويين غير الأوروبيين؛ ووجهة نظر يسارية ترى أن الأوكرانيين يقاتلون من أجل الحرية العالمية، بما فيها حرية الروس أنفسهم. وهكذا تكون أوكرانيا بالفعل تنبض في قلب كل وطني روسي حقيقي.
إلا أن جيجيك، في مقالة سابقة، يؤكد أن على أوروبا إقناع دول العالم الثالث بأنها تقدّم خياراً أفضل من روسيا والصين في مواجهة المشاكل العالمية، والطريقة الوحيدة لفعل ذلك هي في الابتعاد عن الصوابية السياسية، ونظرية ما بعد الاستعمار، هكذا فقط يمكن للأوروبيين أن يجدوا تبريراً كونياً لمعاداتهم للفكرة القائلة إن «لكل نموذج من نماذج الحياة حقيقته الخاصة»؛ ولمواجهتهم للنموذج الروسي الحالي: الدولة بوصفها مجتمعاً عضوياً يحكمه الملك/الأب.
وبالفعل، أظهر استبيان، أجرته شبكة BBC البريطانية في عدد من الدول العربية، أن كثيرين لم يعودوا يهتمون بشكل نظام الحكم، ومدى ديمقراطيته، بقدر ما يهمهم تحسّن الظروف الاقتصادية. قد تكون هذه نتيجة مخيبة للغاية، خاصة أنها أجريت في بلدان ما عُرف بـ»الربيع العربي» التي كانت تُعدّ نموذجاً مأمولاً للتوسّع الليبرالي.
قد لا يمكن الاعتراض على أفكار جيجيك من منظور تنويري، إلا أن هذا المنظور نفسه يطرح عليه سؤالاً مهماً: إذا كنا نستطيع تعريف النماذج القمعية، التي قد لا تكون إلا نسخة شرقية من الإمبريالية الغربية نفسها، كما في حالة الرئيس الروسي بوتين، فما نماذج الحرية التي يمكن تقديمها؟ تعريف جيجيك يبقى سلبياً، فالتخلّص من الصواب السياسي، وما بعد الاستعمار، يطرحه أيضاً أشخاص، قد لا يسرّه أن يذكر اسمه إلى جانب أسمائهم. ومع الشتاء المظلم والبارد، الذي يحذّر كثيرون من أن القارة ستتعرض له في الأشهر المقبلة، تبدو دعوته للثبات على المبادئ الليبرالية لأوروبا، غير المُعرّفة بوضوح، غامضة وغير ذات معنى إلى حد كبير. المفارقة الطريفة أن جيجيك نفسه مُنع من الكتابة في «الغارديان» وغيرها من الصحف «اليسارية» الغربية، لسنوات طويلة، بسبب مواقفه التي اعتُبرت مثيرة للحساسيات، فاضطر للنشر في موقع «روسيا اليوم» التابع لأعدائه الاستبداديين، وجرائد تُحسب على المحافظين، مثل Die Welt الألمانية، ولم يعد إلى الكتابة في الصحيفة البريطانية العريقة إلا بعد الحرب الأوكرانية، وإظهاره لموقفه المعادي بشكل واضح للحكومة الروسية. هل هذا نموذج أوروبي مقنع لليبرالية؟
ورغم كل ما طرحه الفيلسوف السلوفيني من تصورات نقدية مهمة حول نمط الذاتية المعاصر، إلا أن أفكاره الأخيرة لا تبدو مشتبكة فعلياً مع التناقض البنيوي الذي يعيشه النموذج الليبرالي: البشر يزدادون بؤساً وفقراً، ويضطرون لدفع أثمان معارك لم يختاروها، بناء على مفاهيم «حرية» من المفترض أنهم يعيشونها يومياً، لكنها لا تحقق لهم إلا مزيداً من العزلة في دوائر ذاتية مغلقة، تقلّ تدريجياً قدرتها على التواصل وحريتها في التعبير. دعا جيجيك إلى نوع من «الحكومة العالمية» بل حتى «اشتراكية الحرب» لمواجهة المشاكل الكونية، لكنه لم يوضح الفئات الاجتماعية التي ستحقق هذه الأهداف، مكتفياً بمخاطبة الوعي الفردي لمتابعيه، الذين غالباً ما ينتمون إلى جيلي YوZ، ولا يستطيعون تقديم مشاريع اجتماعية تتجاوز عزلتهم. قد تبدو فضاءات القوميين الروس، من أنصار استبداد بوتين، أكثر حميمية وتواصلية وفعالية، وأشد جاذبية للعالمثالثيين، خاصة أن روسيا نجحت حتى الآن في تجاوز آثار العقوبات الاقتصادية الغربية، فيما تظهر أوروبا، التي يعوّل عليها جيجيك، الأكثر تضرراً من الوضع الاقتصادي المرافق للحرب، وكأنها عاقبت نفسها، لأجل مفهوم متناقض للحرية.
«حرية» غير مهمة
وبالفعل، أظهر استبيان، أجرته شبكة BBC البريطانية في عدد من الدول العربية، أن كثيرين لم يعودوا يهتمون بشكل نظام الحكم، ومدى ديمقراطيته، بقدر ما يهمهم تحسّن الظروف الاقتصادية. قد تكون هذه نتيجة مخيبة للغاية، خاصة أنها أجريت في بلدان ما عُرف بـ»الربيع العربي» التي كانت تُعدّ نموذجاً مأمولاً للتوسّع الليبرالي. بهذا المعنى قد تكون الحرب الأوكرانية قد جاءت بالفصل الأخير من خيبة الأمل، بما كان يظن أنه توسّع حتمي لليبرالية منذ سقوط الاتحاد السوفييتي، أي عندما كان يُعتقد أن العولمة، بما تتطلبه من انفتاح أمام رؤوس الأموال والأفكار والهجرة، ستحمل معها «رياح التغيير» لتدمج العالم كله في منظومة اقتصادية/سياسية، تراعي الحريات الأساسية للبشر. ومواجهتها ليست سوى محاولة يائسة لإيقاف الزمن.
ربما لا يكون سبب فشل هذا الطرح/المخيال هو صمود الاستبداديين في وجه «التغيير» بقدر عجز أنصاره عن تقديم طرح أكثر إقناعاً من مجرد شعارات، من المفترض أن تنصر نفسها بنفسها، لمجرد أنها تتفق مع ما يبدو أنه حتمية تاريخية؛ ولم تستفد منها، بعد خيبة الوعود بالازدهار، سوى نخب تزداد دوماً هشاشتها، وحاجتها للحماية من مجتمعاتها.
اجتماعية الحرية
قد لا يكون حل التناقض بين تدهور الحقوق الاجتماعية وتزايد «الحريات» الفردانية ممكناً، إلا من خلال محاولة تجاوز النسخة المعاصرة من الليبرالية الغربية: تم تقديس الذات المفردنة بعد إضعاف الروابط الاجتماعية الراسخة، مثل النقابة والعائلة والتنظيم السياسي، لمصلحة عمال «مرنين» يبيعون قوة عملهم بـ«حرية» بالغة. ولم يعد لديهم ما يسندهم، أثناء إبرامهم لتعاقداتهم مع كيانات تفوقهم بالقوة والحجم، ومنظّمة بشكل جماعي وهرمي، مثل الشركات والمصارف الكبرى. من الصعب اعتبار انكشاف الأفراد هذا أمام استغلال الأقوياء المنظّمين نموذجاً للحرية ضمن أي منظور، حتى لو كان يؤمّن خيارات كثيرة في استهلاك الرموز الثقافية والهوياتية المُفرغة من مضمونها الاجتماعي. لذلك فربما كان الأجدى البحث عن روابط اجتماعية جديدة، لا تستنسخ بالضرورة خيالات المحافظين، ممن يحنون للماضي، لكنها بالتأكيد تخالف المنظور الليبرالي الحالي عن الذات الفردية الحرّة.
كاتب سوري
“القدس العربي”