يحتاج المرء لدليل، في متاهة الخيارات الهائلة من الأفلام والمسلسلات والوثائقيات التي صارت متوفرة لنا: من نتفليكس، أمازون، HBO، إلى المواقع التي لا حصر لها لعرض الأفلام والمسلسلات والوثائقيات بكل اللغات، وضمن كل الفئات: الدرامي، البوليسي، التاريخي وغيرها. وإتباعا لقائمة أرسلها صديق متابع، بدأت بمتابعة سلسلة دراما بعنوان «ليلة الـ…».
حصل بطل السلسلة الرئيسي، ريز (رضوان) أحمد، وهو ممثل ومغني راب بريطاني، على جائزة «إيمي» للأداء المتفوق في سلسلة قصيرة، أو فيلم وبذلك كان أول ممثل مسلم من أصل جنوب آسيوي، وترشح لجائزة «الكرة الذهبية» ولثلاث من جوائز السينما البريطانية المستقلة، عن أدوار قريبة من دوره في السلسلة الدرامية، منها «الطريق إلى غوانتنامو» و«أربعة أسود» و«الأصولي المتمنع».
بؤرة القصة تقوم على حدث ذهاب الشاب الأمريكي – الباكستاني ناصر (ناز) خان، بصدفة غريبة، مع شابة غنيّة غريبة الطباع، تزوده في «تلك الليلة…» المشؤومة، بكحول ومخدرات وتلعب معه لعبة خطيرة تؤدي لجرحها قبل ممارستهما الجنس. يفيق ناصر بعد ساعات ليفاجأ بمصرع الفتاة بعشرات الطعنات، وبعد محاولة متعثرة للهرب، ينتهي به الأمر مقبوضا عليه مع سكين ملوثة بالدماء، وعدد من الأدلة الخطيرة ضده، فيُحال لمحاكمة بتهمة القتل.
يحوّل كاتبا المسلسل ريتشارد برايس وستيفن زيليان، هذه القصة إلى تشريح اجتماعي لمجتمع مدينة نيويورك. يبث المسلسل، إشارات سياسية وأدبية ودينية متعددة، فيما تشتبك حكايات الشخصيات وأقدارها مع تداعيات الحدث، الصغرى، التي تمثلها الحكاية، وخلفياته الأكبر التي تميّز نظام العدالة الأمريكي: التحقيق البوليسي، المحامون، القضاة والمحلفون، والسجناء والضحايا، حيث ينطحن الجميع ويعانون مثل شخصيات الملاحم حين يختلط الخير مع الشرّ ويصبح الواجب أهم من الحقيقة، فيما يجمع الكفاح للبقاء الجميع.
هامش البريء وجاذبية الإسلام!
يلمح محام بسيط (الممثل جون تارتورو) يتعيّش على الدفاع عن المظلومين في أدنى السلّم الاجتماعي، الشاب الأسمر الموقوف (الذي يصرّ كثيرون في المسلسل على اعتباره عربيا) فيلحظ فيه شيئا مختلفا عن زبائنه المعتادين، ويبدأ بجمع الأدلة على براءته، رغم أن شركة محاماة كبرى تنتزع الملف منه، بعد أن تجد في القصة عناصر شهرة وتسويق كبرى: مسلم أسمر يقتل شابة غنية بيضاء!
ينسج المسلسل، بسلاسة فائقة، العلاقة بين ذلك المحامي الخمسينيّ المطلّق من زوجته السوداء التي تعيش مع ابنهما، الذي كان شيوعيا في شبابه. تبدأ نقاط اللقاء من وجود المتهم والمحامي في الهوامش. يسكن ناصر في حيّ يغلب عليه القادمون من جنوب آسيا، باكستان وبنغلادش والهند وأفغانستان، وإضافة لكونه طالبا جامعيا فهو مدرّب مساعد لفريق رياضيّ في الجامعة (السود فيه، كما في السجن، هم اللاعبون الأساسيون) وكغيره من المسلمين فقد خبر تداعيات هجمة نيويورك، ودفع ثمن العنصرية صبيا بحادثي عنف دفعاه للانتقال لمدرسة بعيدة فصار على هامش الهامش، يحاول، كما قال للفتاة، أن «ينفذ ما يؤمر به»!
تدفع هذه الهامشيّة، والبراءة، والرضوخ، شخصيات عديدة للانجذاب لناصر، من المحامي، إلى محامية أخرى تُغرم به، إلى رئيس عصابة أسود في السجن يضعه تحت حمايته، وصولا، في النهاية، إلى المحقّق نفسه، الأبيض الذي على أهبة التقاعد، الذي يحاول إثبات الجرم عليه، والمحامية العامّة، التي تقاوم براءته ثم تستسلم مع وجود الأدلة، وانقسام هيئة المحلّفين. شيء يذكر، من بعيد، بكتاب «جاذبية الإسلام» لمكسيم رودنسون.
إحدى جماليّات المسلسل أنه لا يستسلم للتنميطات، فأم ناصر، محافظة لكنها غير محجبة، وأبوه يتعاطف معه رغم اتهامه بالقتل وتعاطيه المخدرات والكحول وسرقته لسيارته، التي ضاعت أيضا في متاهة منظومة العدالة.
المرض الجلدي ومعضلة القطة!
يواجه ناصر معاناته مع العنصرية، بالبقاء على الهامش والرضوخ لشيفرات السلامة الاجتماعية، لكنه رغم التهدّم الواضح على معالم جسده ومحاولة الاختفاء، فإنه يحاول التصدّي للعنف اللفظي أو الجسديّ. أما المحامي المهمّش فتظهر معالم التهدّم على شكل مرض جلديّ عضال، سنكتشف، مع تطوّر الأحداث أنه مرتبط بالشبكة العامة للأحداث، بحيث يتراجع مع بوادر نجاح المحامي في محاولة إثبات البراءة على الشاب، ويتطوّر مع احتدام الضغوط والأحداث عليه.
إحدى النقاط الشعريّة الكاشفة التي يعطيها كاتبا المسلسل حيّزا خفيا في الحبكة، هي العلاقة بين المحامي وقطّة الفتاة القتيلة، التي يحاول رعايتها في بيته، رغم تحسّسه الجلدي منها، وبعد محاولات عديدة لترك القطة في مكان رعاية للحيوانات (حيث ستقتل إذا لم يأخذها أحد آخر) نكتشف في آخر لقطة من المسلسل أن المحامي تركها تسرح في بيته.
تخضع شخصيّة ناصر (والواضح أنه تم اختياره قصدا من المؤلفين) لتطوّر هائل في السجن، بعد أن يحظى باهتمام إحدى الشخصيّات المؤثّرة في السجن، السجين العالي القيمة VIP، لاعب الملاكمة السابق، و»رجل أعمال» العنف والمخدرات، الذي تحضر وجبات الماكدونالد إلى زنزانته، وتقوم إحدى موظّفات السجن بممارسة الجنس معه، ويقوم غيرها من السجانين بالتخديم عليه. العامل المؤثّر في هذه العلاقة، مجددا، هي البراءة التي يراها رئيس العصابة في ناز، وهي عملة مفتقدة في السجن، لكنّ المفاجأة، أن العامل الآخر المؤثر، هي العلاقة الفكرية بين الشخصين، ففريدي رئيس العصابة، أخذ شهادة تعليمية خلال سجنه، وهو قارئ للروايات، وهذا ما يجمعه مع الطالب الجامعي المجتهد، والمثقف بدون ضجيج.
سندباد يعتلي منظومة السجن!
ينضج جسد ناصر، حيث تنمو عضلاته، كما تتغيّر شخصيته فيخلع عنه، إلى حد كبير، وضعيّة الخضوع والخوف، فتحل مكانها وضعيّة الواثق من مكانه في الجماعة، ويصبح لديه لقب جديد «سندباد» (Sinbad بالإنكليزية) التي يقوم بوشمها على أصابعه بتقسيمها إلى كلمتين دالتين: SIN (خطيئة) وBAD (سيء) كما أنه يورّط المحامية التي تدافع عنه بجلب مخدرات إلى السجن، ويشارك في ضرب مهلك لشخص حاول تشويه وجهه.
عبر تداعيات جريمة القتل، والمحاكمة، والاشتباك مع الشخصيات التي تدور حوله، ينجز ناصر عبوره نحو صيرورته جزءا فاعلا في المنظومة، وليس ضحيّة عرضيّة لها حسب، كما يصل الآخرون، كل بطريقته، إلى مصالحة مع النفس، كما حصل مع المحامي، والمحقق، والمحامية العامة.
يقدّم المسلسل إشارات ذكيّة وخفيّة، إلى فلسطين، حين يذكر فريدي لناصر إن أحد السجناء ظن غزة في أمريكا، وحين يستشهد أحد الشهود بسفر القضاة، حيث تذكر غزة أيضا، كما يذكر شمشون ودليلة، والفلستيون، وكذلك إلى اليهود، حيث يسأل أحد المتهمين السود القاضي لماذا لم يحصل على حكم مثل الذي حصل عليه اليهودي الذي قبله!
إحدى جماليّات المسلسل أنه لا يستسلم للتنميطات، فأم ناصر، محافظة لكنها غير محجبة، وأبوه يتعاطف معه رغم اتهامه بالقتل وتعاطيه المخدرات والكحول وسرقته لسيارته، التي ضاعت أيضا في متاهة منظومة العدالة. تتعرّض شخصيات أخرى، مع اصطدامها بالحدث، إلى انتكاسات، فتشكّ أم ناصر في ابنها، وتخسر المحامية التي انجذبت لناصر وظيفتها، ويحزن رئيس العصابة على ترك ناصر السجن، ويموت أو يُعطب أشخاص آخرون. لا يبدو المسلسل معنيّا كثيرا بكونه «دراما جريمة» أو بالراحة التي نستشعرها من نجاة البريء، فهمّ صانعيه، على ما يبدو لي، هو إظهار هذا الاشتباك العجيب للمصائر، وكون نجاة أحدهم، خصوصا لو كان في أسفل التنميط الاجتماعي أو السياسي، هو نجاة للآخرين أيضا. لا نعلم، مع ذلك، إن كان ناصر، الذي نجا من السجن، قد نجا. لقد تغيّر. أصبح شخصا آخر لا يحتمي ببراءته أو بتنفيذ الأوامر أو بالاصطدام بطلاب صغار مثله، ويداوي ألمه من شكّ أمه به، بمزيد من المخدرات والكحول.
«القدس العربي»