في رأيي أن أكثر ما يُبهر في دماغ الإنسان هي الذاكرة، وأقصد قدرته على تخزين الصُور والأصوات والروائح وتذكّرها كأنما نراها ونسمعها، منها ما يُشعرنا بالسّعادة، أو بالخجل أو الحزن أو الغضب أو المتعة وغيرها من المشاعر. توافد أصدقاء ومحبو الأدب من القدس والجليل والساحل إلى عكا برعاية مؤسّسة الأسوار العكّية، لصاحبيها حنان ويعقوب حجازي، احتفاء بإصدار كتاب «وطن على شراع الذاكرة» لكاتبين، أحدهما مغترب في أوسلو، والأخرى مقيمة في وطنها فلسطين.
الاحتفاء بصدور كتاب لا يقلُّ أهمية عن صدور الكتاب نفسه، فخلال الحديث والمداخلات النقدية التي قدمها عدد من الكتاب وعلى رأسهم د. جهينة خطيب،
تعرفنا على جوانب أخرى كثيرة من مسيرة حياة المحتفى بكتابهما وبحضور كليهما.
الدكتور عمر له بعض القصائد ومسرحية، وانشغل في الحقل الدبلوماسي، رأت عيناه الشروق من فوق تل نابليون المتاخم لعكا عام 1943، كانت شقيقته الكبرى توصله إلى الروضة، عندما اشتعلت البلاد وهبَّ إعصار النار الذي حمل الأسرة شرقاً حتى الشام، ليقيم بين أبناء شعب كريم عروبي ذي نخوة ويدرس فيها، ثم يدرس في صوفيا وبعدها يجتهد ليحصل على الدكتوراه في تاريخ المسرح.
كتب مسرحية «بيتٌ ليس لنا» بتناصٍ مع قصة غسان كنفاني «عالم ليس لنا»، وله مجموعة شعرية «نداء إلى صقر قريش».
أما «وطن على شراع الذاكرة» المحتفى به، فهو عبارة عن رسائل تبادلها مع الكاتبة والشاعرة د. روز شعبان من قرية طرعان في منطقة الناصرة.
انبثقت الفكرة بعد تعارف بينهما خلال لقاءات ندوة اليوم السّابع المقدسية عبر تطبيق (الزّوم)، التي تديرها الروائية المقدسية ديمة السّمان، ونادي الموظفين في القدس.
تبدو الرّسائل وقد كتبت على عجل خلال حوالي خمسة أسابيع، أي أنهما تبادلا الرسائل في كل يوم، وواضحٌ أنّها لم تُكتب بعفوية، أي أن الفكرة خُطِّط لها، لإصدارها في كتاب.
الرسائل الإلكترونية تختلف عن تلك التي كانت تُكتب على الورق، وترسل في البريد، وتُحمل وتنقل على مهل وقد يستغرق وصولها أسابيع، حاملة رائحة الحبر ولونه، وحتى رائحة عطر، ثم انتظار الرد عليها أسابيع أخرى، فكانت تعكس إيقاع الحياة الذي يمضي على مهله، بينما تعكس الرسائل الإلكترونية إيقاع الحياة السّريع.
تأتي هذه المجموعة بعد رسائل محمود شقير وحزامة حبايب، وجميل السّلحوت وصباح بشير، وبلا شك أنها تُذكّر برسائل غادة السّمان وغسان كنفاني وأنسي الحاج المثيرة للجدل، وجبران ومي زيادة وغيرهم.
الكاتبة روز شعبان، مديرة مدرسة في مهنتها، تكتب الشّعر والخاطرة والقصة القصيرة، وقصص الأطفال.
عنوان الكتاب «وطن على شراع الذاكرة»، كلمة شراع تحيل إلى السَّفر والبحر وإلى وطن يعيش في ذاكرة الكاتب، الذي تنهمر دمعته كلما تحدّث عن فردوسه المفقود، وهو حقيقة من تراب، تعيشها الكاتبة في قريتها طرعان في منطقة الناصرة.
وطنٌ على أجنحة الشَّوق إلى رماله الدافئة، وحجارة الأسوار التي تكسّرت عليها حراب الغزاة، وما زالت تحمل نقوش رصاصهم، تفتح ذراعيها لاحتضان شوق الطريد إلى حضن وطنه الذي لا شفاء منه.
في واحدة من هذه الرسائل، يصف الكاتب زيارته الأولى إلى عكا بعد اتفاقات أوسلو، وذلك بدعوة من الفنانَين سامية قزموز ومحمد بكري، حيث يحاول أن يعرف موقع بيت أسرته، ويلتقي بجارته التي تجهش بالبكاء عندما يسألها إذا كانت تذكر عائلته (كتمتو) فتعددها واحداً واحداً بمن فيهم عُمر، فيُعرّفها على نفسه بأنّه عمر، فتدخله فاطمة مع مرافقيه إلى بيتها في لقاء مؤثر جِداً.
أما روز اليوسف شعبان، فتحاول أن تنقل له صورة للبلدة التي وُلد فيها، لبحر عكا وسورها وحناطيرها وأسواقها وأهلها، تتنقل في أحيائها داخل وخارج الأسوار، وتتواصل معه بالبث المباشر، حتى وصولها إلى البيت الذي ولد فيه قرب جنينة البلدية، ولكنها لا تجد التينة التي ما زالت عالقة في ذاكرته في ساحة البيت.
وفي رسائل أخرى، تحدثه عن غربتها في وطنها، هذا الوطن السّليب.
إنها أمانة تُنقل إلى الأجيال القادمة، فالغربة الطويلة لم تطفئ الحنين، وبلاد الثلج أيقظت الجمر من تحت الرماد، والغربة في الوطن لا تقل ألماً عن الغربة خارجه.
قلبه ما زال مزروعاً في رملها الدافئ، على الشط الذي يستقبلك لحظة خروجك من البوابة الشرقية في شارع صلاح الدين.
روز اليوسف شعبان، سوسنة سفوح بلدة طرعان، ترسل شذاها إلى الشّقيق المغترب، تُنعشه وتدفئه وتشحنه بومضة تقول فيها إن الجذر ما زال حياً، والذاكرة لن تموت، تسعفه بأضمومة من سنابل مرج ابن عامر، ولها هي قصتها ونصيبها من التهجير، فابنها هشام يتساءل لماذا نحن بيت واحد فقط في بلدة طرعان! حينئذ نعرف أن والد أبنائها من بلدة حطّين المُهجّرة، التي أقامت آلة الغزو على ترابها مستوطنة (حطّيم)! تلك الهضبة على كتف بحيرة طبريا، التي شهدت إحدى أهم المعارك الحاسمة في تاريخ المنطقة، وفيها مقام لأحد المتصوفين، وأقيم فيه مقام شعيب عليه السلام الذي يعتبره الموحِّدون الدروز من أهم رموزهم الدينية، ويطلقون عليه مقام النبي شعيب. بين عكا ودمشق وصوفيا وأوسلو والجزائر ورام الله وطرعان وحطين وغيرها، تشتبك لغة الغائب الحاضر مع حروف الحاضر الذي لم يغِب بجسده، ولكن روحه هي التي تغترب.
كُتَبت هذه الرسائل بلغة شاعرية ومتينة، مُحمّلة بروائح الحبق والقندول والزوفى والزّعتر، والسُّؤال المشروع هو: ماذا تضيف هذه الرَّسائل؟
الحقيقة أن الإضافة هي في الجانب التوثيقي للنكبة، ونقل الشفوي ليصبح مكتوباً، وعلى كل فلسطيني قادر أن يكتب نكبته الخاصّة، ليس للبكاء على الأطلال، إنما لحراسة الذاكرة وريّها كي لا تجفّ، وترسيخها لإبقائها حيّة في وجه المحو المنهجي، ونقلها من جيل إلى جيل، حتى ولو لقرون أخرى، فما حدث ويحدث ليس عابراً في تاريخ المنطقة وشعوبها، ولا في تاريخ أمتنا، رسالة فحواها أن هذا الوطن سُلب من أهله وأناسه بشجره وبيوته وترابه وبحره ومقدّساته، ولكنهم لن يتنازلوا عنه، مضت أكثر من سبعة عقود وما زال السّلب مستمراً حتى هذه اللحظة.
ليس هناك من يسعى لاعتذار أو محاسبة ذات عن جرائم طالت ملايين الفلسطينيين والعرب، بل هناك من يدعو إلى الاستمرار بها وبوتيرة أسرع وأعمق، ويعلن ببهيمية وحقارة، بأن المهمة التي بدأت عام 1948 لم تنته بعد، ومن يدعو إلى هذا، تزداد شعبيته يوماً بعد يوم..
“القدس العربي”