لا أحد ينكر أهمية الصورة وقدرتها التعبيرية الهائلة التي تغني أحياناً عن كتاب، والصورة في أشكالها كافة هي فن إبداعي، والكلمة والصورة صنوان، ويستمد كل منهما قوته من الآخر، وأحياناً لا يكتمل الموضوع أو تتضح الفكرة، إن لم تتعاضد الكلمة مع الصورة. والصورة أسبق من الكلمة، أي أنها الأصل، والكلمات اختصارات أو رموز للصور.
لكن، مع شيوع الكاميرات وتوفرها في جميع أجهزة الخلوي وغيرها، وسهولة التقاط الصور والتحكم بها ونشرها، فقدت الصورة قيمتها وأهميتها وطاقتها التعبيرية، وغدت معظم الصور سطحية باهتة لا تقول شيئاً، وتخلو من اللمسات الإبداعية، بل هي – في جوهرها- إلى رسومات الإنسان البدائي أقرب، خاصة مع طغيان الصور الشخصية الفردية والجماعية التي لا تعني شيئاً، ولا دلالة لها.
طغت الصورة وتغولت على الإبداع في معظم النشاطات والفعاليات الثقافية؛ حيث تنظم يومياً عشرات الفعاليات على مستوى الدولة الواحدة، لكن نادراً ما نقرأ تغطية إخبارية عن هذه الفعالية، وحتى الجهة المنظمة لا تفعل ولا تهتم، لكنها في المقابل تنشر على صفحاتها في مواقع التواصل عشرات الصور للمشاركين والحضور، في ممارسة احتفالية أقرب لحفلات الزواج منها للثقافة والإبداع.
تكفي صورة أو اثنتان لأي فعالية أو نشاط ثقافي؛ واحدة للمشاركين، وأخرى جماعية للجمهور، أما أن يخصص لكل مشارك ولكل حاضر صورة وربما عدة صور في أوضاع مختلفة، فهذا مما يسيء إلى الثقافة، ويجعل من الصورة هي الأساس والغاية من الحضور. كما أن البعض يستغل الفعالية لالتقاط الصور مع آخرين من باب الذكرى – كما يدعي – في ممارسة تتكرر كل فعالية.
تغطية الفعاليات الثقافية ونشر موجز معبر لمجرياتها شبه مغيب عن الميدان الثقافي، ولم نعد ندري لم تعقد الفعالية وما الغاية منها إن كانت مخصصة فقط لعشرة أشخاص أو عشرين في أفضل الأحوال ونصفهم مشغول بالتقاط الصور ونشرها مباشرة على مواقع التواصل والرد والتعليق أولاً بأول؟
إذا كانت الهيئات الثقافية معنية بالثقافية ونشر الوعي وتنمية الذوق وتغذية الروح، فعليها أن تولي اهتماماً كبيراً بتغطية فعالياتها الثقافية من خلال الناطق الإعلامي لها أو العضو المكلف بالإعلام، من خلال تقرير ثقافي شامل، ونشره، خاصة في ظل سهولة النشر واستعداد عشرات الصحف والمواقع لذلك، وعليها أن تدرك أن الاكتفاء بمن حضر جريمة لا تغتفر بحق الثقافة والإبداع، وأن من حق الآخرين المعرفة والاطلاع، ومن المعيب أن تبقى الثقافة حبيسة قاعة صغيرة وعدد محدود لا يتغير.
الصورة في خدمة الإبداع، هذا هو الأصل، أما أن يصبح الإبداع في خدمة الصورة وذوات الحضور والمشاركين، فهذه مهزلة، وتسخيف للإبداع ومسخه، وتكريس ممارسات هامشية سطحية تطمس دور الثقافة وتأثيرها، وضرورة أن تحقق ما تأمله وترجوه وعلى أكبر نطاق، ليس من حق أحد أن يمنع التصوير، لكن ليس من حق أحد نشر عشرات الصور على أنها هي الفعالية الثقافية، لأن الصور الاحتفالية لا تقول شيئاً، بل هي حجاب يطمس، وستار يخفي، وعبث لا يليق بالثقافة والمثقفين.
وثمة موضوع آخر يسيء إلى الثقافة والإبداع، وهو الإعلاء من شأن المسؤولين وراعيي الفعاليات الثقافية على حساب الفعل الإبداعي، وكأن الغاية من الفعالية حضور المسؤول وراعي الحفل للتصوير معه وسماع كلماته الجوفاء والنمطية والمكررة، وتهميش الفعالية الثقافية التي لا ذكر لها في معظم التغطيات الصحافية إلا على هامش تعظيم المسؤول وترديد أقواله وتصريحاته السخيفة. وعلى من يهتم بالثقافة ومكانتها أن يدرك أن الإبداع أعلى من كلام المسؤول، وأعظم شأناً، وأنه مقدم على ما عداه في الفعالية ذاتها، وأرى أن من احتقار الفعل الثقافي أن يكون تحت أي رعاية، إلا إذا كان صاحب الشأن يشعر بالصغار، وأن إنتاجه بحاجة إلى رافعة تسند عجزه، وترقع عواره، وترفع من شأنه.
إن أي عمل إبداعي لا ينتصب بذاته، ويتعكز على غيره، لا يعوَّل عليه، وهو مجرد لغو لا حياة له.
كاتب أردني
“القدس العربي”