لقناعته بوحدة المعرفة بحكم أن التاريخ يرصد تفاصيل الحياة بكل جوانبها، شغلته قضايا الثقافة بكل مفرداتها الفنية والأدبية والاجتماعية، بقدر اهتمامه بقضايا التاريخ الحديث، مؤكدا أن من المهم أن ينفتح المؤرخ على معظم فنون المعرفة من الأدب إلى الفن، وهي قضية قد لا يُعنى بها كثير من المؤرخين. هذا ما نعرفه عن محمد صابر عرب من خلال تقديمه لكتابه «بين الثقافة والسياسة» الصادر عن الهيئة المصرية العامة للكتاب، وفيه نعرف أن عرب اهتم أكثر بتاريخ الفكر، خصوصا تلك الكتابات التي فتحت أمامه آفاقا واسعة من الأفكار الحرة، سواء اقتنع بها القارئ، أم تحفّظ على بعضها، لكنها في مجملها تتيح للمثقف أن يتعرف إلى أفكار ورؤى جديدة، غالبا لا يتعرف إليها من خلال تخصصه الدقيق. عرب يشير هنا إلى أنه يجد متعة كبيرة في قراءة أعمال دانتي وميكافيلّي وتوماس مور وجان جاك روسو، إلى جانب كتابات الطهطاوي ومحمد عبده وعبد المتعال الصعيدي ولطفي السيد وطه حسين والعقاد ومحمد حسين هيكل ويوسف إدريس، وغيرهم ممن كتبوا في الأدب والفكر والسياسة.
في كتابه هذا يتساءل عرب متى نكتب تاريخ الثورات العربية، ويجيب، حسب اعتقاده، بأن التوقيت لم يأتِ بعد، وما يُكتب أو يُنشر أو يُتاح من وثائق هو بحاجة إلى أن يأتي الوقت المناسب لكي يتفرغ المؤرخ لكتابة هذه الحقبة، بعيدا عن أي مؤثرات سياسية أو إعلامية. عرب الذي يرى أن المشهد العربي من المشرق إلى المغرب كان حاضرا في كل ما كتب، يقول إن أهم الأسباب التي عجزنا فيها عن فهم شريعتنا هو غياب العقل.
قضايا متعددة
في هذا الكتاب الذي تناول فيه المؤلف هموم العرب وأمراضهم، سواء في ظل الثورات العربية، أم ما قبلها بقرون بعيدة، وعلى حد وصفه، قد يرى القارئ أن موضوعات كتابه قد تبدو مستقلة بعضها عن بعض، لكن الرابط بينها هو الوطن والعقل والثقافة والحرية، مشيرا إلى أن كل موضوع من موضوعات كتابه هذا يصلح لأن يكون كتابا مستقلا.
هنا أيضا يقول المؤلف إن العرب لم يستوعبوا دروس مآسيهم، حينما وقعوا فريسة للاستعمار الأوروبي بعد أن بقوا لأكثر من أربعة قرون فريسة للاستعمار العثماني، بل زاد الأمر سوءا حينما أهملوا التعليم والحكم الرشيد. في «بين الثقافة والسياسة « الذي يصفه مؤلفه بأنه لا يتناول قضية واحدة، بل قضايا متعددة تشكل كل واحدة منها فكرة مستقلة تعبر عن رؤيته في التعليم والثقافة والفن والتاريخ والسير الذاتية، يكتب قائلا، إن التعليم في كل المجتمعات الإنسانية هو وسيلة للتوجيه وبث القيم الأساسية وتنمية الشعور بالانتماء الاجتماعي والقومي، لأن القيم هي جوهر المعرفة. هنا يؤكد الكاتب أن الإسلام ثقافة وحضارة، فهو نسق اقتصادي يُعظّم من قيمة العمل ودقة الإدارة، من خلال قوانين محددة للسلوك اليومي، وهي أمور لا توجد في غيره من الشرائع بهذا القدر من الوضوح، ذاكرا أن الدول الأوروبية وهي تستعيد نهضتها الحديثة والمعاصرة، لم تُلقِ وراء ظهرها بكل تراثها، بل أجادت اختيار الصالح منه لكي يمثل الطاقة الهائلة التي استمدت منها أوروبا كل نهضتها، بينما احتفظت بما يمكن تسميته «التراث العبء» لكي يكون مجالا للدراسة والتحقيق في دائرة المتخصصين فقط، ولا يشك الكاتب في أن جانبا من تراثنا قد تجاوزه الزمن، ولم تعد له سوى أهمية تاريخية وبحثية فقط. من القضايا المهمة التي يتناولها المؤلف هنا، قضية الحوار التي يرى أنها السبيل الوحيد لتماسك مجتمعاتنا، ودعم أوطاننا، وهي ثقافة يقع العبء فيها على مؤسساتنا التعليمية والثقافية والاجتماعية، خاصة بعد أن تأزمت الأمور في بعض أوطاننا، حينما انحرفت جماعات نسبت نفسها إلى الإسلام، بينما هي تخالف أبسط قواعده، وقد استحلت قتل الناس وترويع الآمنين.
سر الحياة
كذلك يقول المؤلف هنا إن القانون هو سر الحياة، وعماد سعادة الأمم، ولم يكن من قبيل المصادفة أن يرتضي سعد زغلول زعيم الوطنية المصرية وتلميذ محمد عبده شعارا لحزبه «الحق فوق القوة والأمة فوق الحكومة» وما أحوجنا إلى رؤى الإمام محمد عبده بعد أن ضلت بنا السبل وضاقت علينا الأرض بما رحبت. هنا أيضا يعتقد عرب أن كل المؤسسات الثقافية والتعليمية في عالمنا العربي، وهي تخطط لمستقبلها الثقافي والتعليمي، عليها الاستفادة مما كتبه طه حسين ولا يزال صالحا للإفادة منه في واقعنا المعيش. ما يندهش له الكاتب هنا هو أننا تحررنا من الاستعمار وشيدنا المدارس وأقمنا الجامعات، وأخرجت إلينا المطابع خلاصة فكر الرواد في التفكير العلمي، وبعد ذلك كله يخرج علينا من يستحل دماء الناس والدعوة إلى هدم الدولة الوطنية الحديثة، بحجة عودة الخلافة الإسلامية، وهذا ما يجعل المؤلف يتساءل: أليست القضية بكل مآسيها جديرة بإعادة النظر في كل برامجنا التعليمية والثقافية والإعلامية؟ صابر عرب في مقاله المثقف العربي في زمن الهزائم يقول إنه عاش هو وغيره من أبناء جيله عصر الحلم الكبير، حين كانوا يحلمون بوطن عربي ينعم فيه المواطن العربي بحقه في الحرية والعدالة الاجتماعية والتحرر من الاستعمار وعودة فلسطين إلى أصحابها. هنا كذلك يؤكد الكاتب أنه لم يحدث وتأثرت ثقافتنا أو هويتنا بما كان ينادي به أنصار فصل الدين عن الدولة، وإنما الخطر كان دائما من دعاة الجمود وأنصار فهم النص على حساب العقل، مضيفا أنه لم تكن هناك مشكلة في تقبل الثقافات الأجنبية والاستمتاع بقراءتها وتذوق فنونها، بعد أن أفردت الجامعات العربية عناية كبيرة باللغات والآداب والفنون الأجنبية، وقد اعتادت بعض الجامعات العربية استقدام أساتذة أجانب من معظم جامعات العالم.
مهرجانات
هنا ومع قوله إن اللغة العربية ستبقى ما بقي العرب أحياء في أوطانهم، يقرر أن العناية باللغة العربية تستوجب من كل المؤسسات العربية الاهتمام بها، واستخدامها في كل أنماط حياتنا، لأن التعظيم في إعمال اللغة العربية هو دليلنا الوحيد على أننا لا نزال عربا، راصدا أن المتابع للمشهد الثقافي العربي يلحظ عناية كبيرة بظاهرة المهرجانات والاحتفالات الثقافية والفنية، لدرجة أن المتابع لوسائل الإعلام عن بُعد يشعر وكأن الثقافة والفنون والآداب، أصبحت شيئا مهمّا في حياتنا العربية! عرب يكتب هنا قائلا إن القارئ لتاريخ العرب منذ بدايات القرن السادس عشر الميلادي، يلحظ أن هذه الأمة شاء قدرها أن تعيش في سلسلة متلاحقة من الهموم الكبيرة، وإن المتابع لأحوال الأقطار العربية التي شهدت ما يُسمى بثورات الربيع العربي، يتبين له أن هموم الناس وآلامهم لم تنتهِ بزوال الحكام، بعد أن عاش الناس عقودا من التهميش والاغتراب في أوطانهم، وقد تبين أن الحرية ثقافة وممارسة. في «بين الثقافة والسياسة» يكتب صابر عرب عن القراءة والنشر في عالمنا العربي، عن ثقافة التخلف، عن الدراما والتاريخ، عن الحقيقة التاريخية في كتابة المذكرات الشخصية، عن دانتي، عن مقهى ريش، عن حصاد الثورات العربية وغيرها من الموضوعات والقضايا التي تمس الواقع العربي قديما وحديثا.
كاتب مصري
“القدس العربي”