بعد ما رثته أوساط إسرائيلية واسعة وأدخلته متحف أو مزبلة التاريخ عاد بنيامين نتنياهو ليحتل سدة الحكم في إسرائيل للمرة السادسة وهو في الثانية والسبعين بعد ما كان قد دخل دارة رئاسة الوزراء وهو في أربعينيات عمره بعدما فاز بها بالمرة الأولى عام 1996 متغلبا على شيمون بيريز. المختلف هذه المرة أنه قد عاد بعد جولة انتخابية سطحية ملوثّة خامسة منذ 2019 ومعه فريق من العنصريين الفاشيين ممن باتوا الحزب الصهيوني الثالث في قوته: حزب «الصهيوينة الدينية» برئاسة ايتمار بن غفير وباتسلئيل سموتريتش. أظهرت النتائج النهائية لانتخابات الكنيست الإسرائيلي الـ25 التي جرت يوم الثلاثاء الماضي أن معسكر رئيس الحكومة السابق ورئيس الليكود والمعارضة بنيامين نتنياهو حصل على 64 مقعداً، بينما بقي كلٌّ من أحزاب ميرتس والتجمع الوطني الديمقراطي «والبيت اليهودي» تحت نسبة الحسم 3.25 في المئة. وحسب النتائج الحقيقية، حصل حزب الليكود على 32 مقعداً، وحصل حزب الصهيونية الدينية على 14 مقعداً، وحصل حزب شاس لليهود الحريديم الشرقيين على 11 مقعداً، وحزب يهدوت هتوراه للحريديم الغربيين على 7 مقاعد. في المقابل، حصل المعسكر المناوئ لنتنياهو على 51 مقعداً موزعة على النحو التالي: حزب «يوجد مستقبل، برئاسة رئيس الحكومة الإسرائيلية الحالية يائير لابيد، 24 مقعداً، وتحالُف «المعسكر الرسمي» الذي يضم كلاً من حزبيْ «أزرق أبيض» برئاسة وزير الدفاع بني غانتس، و«أمل جديد» برئاسة وزير العدل جدعون ساعر، والرئيس السابق لهيئة الأركان العامة للجيش الإسرائيلي الجنرال احتياط غادي أيزنكوت، 12 مقعداً، وحزب «إسرائيل بيتنا» برئاسة وزير المال أفيغدور ليبرمان، 6 مقاعد، وحزب العمل، برئاسة وزيرة المواصلات ميراف ميخائيلي، 4 مقاعد، والقائمة العربية الموحدة، برئاسة عضو الكنيست منصور عباس، 5 مقاعد. وحصلت قائمة التحالف بين الجبهة الديمقراطية للسلام والمساواة والحركة العربية للتغيير على 5 مقاعد في الكنيست.
الفارق الحقيقي بين المعسكرين
صحيح أن الفارق بين المعسكرين هو عشرة مقاعد لكن ذلك لا يعكس انهيارا واسعا جدا للأحزاب الصهيونية التي تعرّف نفسها وسطا ويسارا أو أحزاب المعارضة لنتنياهو فالفارق العددي بينهما لا يتعدى بضعة آلاف صوت لكن سقوط «ميرتس» والتجمع» يعني إحراق تسعة مقاعد، فطريقة احتساب المقاعد الإسرائيلية تعتمد على بدء عد الأصوات الصحيحة فقط للأحزاب التي تجاوزت نسبة الحسم. ومع ذلك لا يمكن تجاهل الزيادة الكبيرة في قوة الأحزاب الدينية والقومية-الدينية المتشددة التي دفعت أوساط اليسار للندب واللطم وكأن إسرائيل ذاهبة لتغيير وجهها وتقترب من الشبه مع دولة شريعة كإيران والسعودية أكثر مما هي غربية ليبرالية كفرنسا. العنواين البارزة لهذه الانتخابات فوز اليهودية على الإسرائيلية وفوز الديماغوغوية والعنصرية والشعبوية المبنية على كراهية العرب، والغريب على الديمقراطية والقيم الليبرالية بعد معركة انتخابية تخللها الكثير من الطعن والشخصنة والتسطيح وسط غياب مريع للقضية الفلسطينية وللقضايا الداخلية الجوهرية الإسرائيلية.
تحميل لابيد المسؤولية
ولذا وجهت مصادر رفيعة المستوى في أحزاب المعسكر المناوئ لرئيس الحكومة السابق ورئيس الليكود والمعارضة بنيامين نتنياهو، والتي ألّفت الحكومة الإسرائيلية المنتهية ولايتها التي أطلقت على نفسها اسم «حكومة التغيير» انتقادات حادة إلى رئيس الحكومة الإسرائيلية الانتقالية ورئيس حزب «يوجد مستقبل» يائير لابيد، واتهمته بإدارة انتخابات الكنيست الـ25 التي جرت يوم الثلاثاء الماضي، بإهمال، وبحرق مئات آلاف الأصوات التي حصلت عليها أحزاب لم تتجاوز نسبة الحسم (3.25 في المئة) كما حمّلته مسؤولية فوز أحزاب اليمين بقيادة نتنياهو في الانتخابات. بموازاة ذلك، انتقد قياديون في حزب العمل رئيسة الحزب وزيرة المواصلات ميراف ميخائيلي وحمّلوها المسؤولية عن عدم وصول حزب ميرتس إلى الكنيست بسبب عدم تمكّنه من تجاوز نسبة الحسم، وذلك على خلفية رفضها خوض الانتخابات بقائمة واحدة للحزبين.
في المقابل، أدلت ميخائيلي بتصريحات إلى وسائل إعلام حمّلت فيها لابيد المسؤولية عن فوز أحزاب اليمين وعدم تمكُّن ميرتس من اجتياز نسبة الحسم. ومن بين الانتقادات التي وُجِّهت إلى لابيد أنه عمل في الخفاء على زيادة حجم تمثيل حزبه «يوجد مستقبل» في الكنيست على حساب حزبيْ العمل وميرتس، وهو ما أدى إلى تراجُع الحزب الأول وخسارة الحزب الثاني. وكذلك أنه ارتدع عن إدارة الأزمة لدى الأحزاب العربية ( تفكيك القائمة المشتركة) خوفاً من إبعاد ناخبين من معسكر الوسط-اليمين، وتسبب ذلك بإبعاد حزب التجمع الوطني الديمقراطي من الكنيست ومنع إقامة كتلة مانعة تحول دون عودة نتنياهو إلى منصب رئيس الحكومة.
مفاتيح الانتصار
وقال قيادي في أحد أحزاب المعسكر المناوئ لنتنياهو لصحيفة «هآرتس» إنه بدلاً من أن يستخدم لابيد مفاتيح انتصار كانت بحيازته، مثل توحيد الأحزاب العربية، وحثّ ناخبي العمل وميرتس على التصويت لهذين الحزبين، بعد رفضهما التحالف، تنازل عنها، الواحد تلو الآخر، وتسبب بانهيار المعسكر الذي أدى إلى تغيير حُكم نتنياهو. وقالت مصادر رفيعة المستوى في تحالُف «المعسكر الرسمي» برئاسة وزير الأمن بني غانتس، إن الأصوات التي حصل عليها معسكر الأحزاب المناوئ لنتنياهو، بما في ذلك أصوات حزبيْ ميرتس والتجمع الوطني الديمقراطي اللذين لم يتمكنا من اجتياز نسبة الحسم، كان بإمكانها أن تؤدي إلى فوز هذا المعسكر في الانتخابات. وأضافت هذه المصادر: «لقد أدار لابيد الحملة الانتخابية من حديقة ورود، ومن المنصة، لا من الميدان. وحتى الآن، يتبين أن معسكر التغيير والأحزاب العربية حصلا على أصوات أكثر من معسكر الأحزاب المؤيدة لنتنياهو».
رد لابيد
وردّ مصدر مسؤول في حزب «يوجد مستقبل» على هذه الاتهامات، قائلاً: «إن بني غانتس خاصم لابيد، بدلاً من نتنياهو، وفشل في الحصول على مقعدين من أحزاب اليمين، وهو المسؤول عن الخسارة. وبدلاً من التعاون مع لابيد، انشغل غانتس بنفسه بشكل مهووس. وبينما قام رئيس الحكومة لابيد بإدارة حملة إيجابية ومحترمة حيال جميع الشركاء في معسكر التغيير، ومن أجل مصلحة الدولة، قام غانتس بالثرثرة بشأن حكومة متخيّلة برئاسته». ولا شك في أن عدد المقاعد التي حصل عليها حزب غانتس تعكس رأي الجمهور العريض فيه. وأفيدَ أيضاً بأن لابيد أحبط اقتراحاً قدمه عضو الكنيست من حزب ميرتس موسي راز، يقضي بخفض نسبة الحسم من 3.25 إلى 2 في المئة، وذلك على الرغم من أن قائمتيْ «المعسكر الرسمي» والقائمة العربية الموحدة وافقتا على الاقتراح.
زوال ميرتس
ومن أبرز عناوين الانتخابات الإسرائيلية خسارة حزب «ميرتس» الحزب الإسرائيلي الوحيد الذي ما زال يتحدث عن تسوية الدولتين بعدما كان حزبا مهما وكبيرا، ففي انتخابات 1992 حاز على 12 مقعدا وكان الحليف المركزي لحزب «العمل» برئاسة اسحق رابين في توقيع اتفاق أوسلو مع منظمة التحرير بعد عام. وأدى هذا، من بين أمور أُخرى، إلى الاعتراف بمنظمة التحرير الفلسطينية كممثل رسمي للأمة الفلسطينية، وإلى اتفاقات أوسلو والسلام مع الأردن وفي المقابل، أسس ميرتس في الحكومة الجناح الاجتماعي الأساسي ليسار يحترم نفسه. مرّت ثلاثون عاماً ومن 56 مقعداً مشتركاً، بقي أربعة، كل توسلات ميرتس إلى حزب العمل بالاتحاد معه، وإلى لابيد كي لا يبتلعه، وإلى الناخبين كي يرحموه، لم تنفع. لقد شُطب الحزب من الخريطة، ومعه اليسار الصهيوني وهذا أمر له رمزيته الكبيرة، ويبدو كأمر حتمي متوقع في انتخابات شهدت صعوداً غير مسبوق للكهانيين والحريديم. ولم يعد من المنطقي في كنيست يحكمه بن غفير وسموتريتش أن يبقى مكان لزهافا غالؤون ويائير غولان.
إعادة رفاة هرتزل
وعبر المحلل الإسرائيلي البارز ناحوم برنياع عن صدمة اليسار الصهيوني الذي ما زال في ذروة العويل واللطم على ملك لم يصنه كالرجال بقوله إن نتائج انتخابات الكنيست الخامسة والعشرين «ثورة» معتبرا أن الحسم في الانتخابات لصالح اليمين «قد يكون صفارة بداية تحوّل سيغير وجه الدولة». ويتابع برنياع في تحليل نشرته صحيفة «يديعوت أحرونوت»: «القصة لم تعد متعلقة بنتنياهو. فهذا التحول أقوى منه. وربما هو انجرف، لكن بنظري هذه بداية نهاية عهد الصهيونية الليبرالية، العلمانية، الإسرائيلية. لقد بزغ عهد آخر، معاد لليبرالية، حريدي-قومي، هدام. وبالإمكان إرسال رفات واضع فكرة الدولة اليهودية ثيودور هرتسل إلى موطنه الأصلي في فيينا، ورفات بن غوريون إلى مسقط رأسه في بلونسك» كما قال إنه ليس متأكدا من أن نتنياهو الشاب كان يريد أن يعيش في دولة يرأسها قريبا نتنياهو المسن، وأضاف برنياع أنه «ينبض في النخبة السياسية الجديدة رغبة قوية، حقيقية، بإنهاء الحساب والانتقام من 75 عاما من الإقصاء. فهم أطفال (يهود) اليمن المخطوفون الحقيقيون، والضحايا الأبديون لمؤسسي الدولة».
وأشار إلى أنه عندما يجلس رؤساء أحزاب الائتلاف الجديد حول طاولة الحكومة ستُطرح القضايا التي تعهدوا بها خلال الحملة الانتخابية منوها أن «مسألة الأمن الشخصي مطروحة في مركز اهتمام إسرائيليين كثيرين. وكذلك مسألة القدرة على الحكم» ويضيف «ولا توجد أخبار كاذبة هنا. التخوفات حقيقية. وكذلك ارتباطها بالعلاقات المشحونة بين اليهود والعرب حقيقية. وبن غفير دخل إلى هذا الفراغ». ورأى المحللون أن بن غفير بات قريبا جدا من تعيينه وزيرا للأمن الداخلي، المسؤول عن الشرطة وسياسة إسرائيل في القدس المحتلة وتجاه المجتمع العربي. وحسب برنياع، فإن بن غفير هو المرشح الوحيد لهذا المنصب، وأنه «محل إجماع. مجرم مدان بالإرهاب يحصل على صلاحيات وزارية على الشرطة، ولا يرجف جفن أحد».
اتهام العرب
من جانبه، أشار المحلل العسكري في صحيفة «هآرتس» عاموس هرئيل، إلى أن هدف نتنياهو من ائتلافه الجديد هو تغيير القوانين ليتمكن من الإفلات من محاكمته بتهم فساد خطيرة ومنع سجنه. وتشكيل نتنياهو حكومة كهذه «لن تكون صفقة أحادية الجانب. وسيطالب بن غفير وسموتريتش بمقابل. ولنتخيل زيارة مستقبلية لبن غفير، الوزير المرشح للأمن الداخلي إلى الحرم القدسي الشريف بادعاء الاطلاع على الوضع الأمني فيه. وقد رصده الفلسطينيون والعرب في إسرائيل كعدو منذ وقت طويل». لكن محرر «هآرتس» الوف بن انضم للأوساط الإسرائيلية التي ذهبت للبحث عن كبش فداء عربي لتبرير ما حصل من خلال الزعم أن التجمع الوطني الديمقراطي برئاسة النائب سامي أبو شحادة دخل الانتخابات بمفرده ليسقط ويسقط معه اليسار الصهيوني من الحكم ومن خلال الزعم أن انفلات عقال العرب في المدن التاريخية عكا وحيفا ويافا واللد والرملة في هبة الكرامة عام 2021 أرهبت اليهود وجعلت «الصهيوينة الدينية» تطير على جناحي الخوف من «العدو الداخلي». ومع ذلك وفي نظرة للخلف يبدو أن الأحزاب العربية الفلسطينية في إسرائيل بحاجة للكثير من الإجابات على أسئلة مفتوحة تنتظر إقران القول بالفعل لإصلاح حالها وإلا ستندثر في انتخابات قادمة ومن هذه الأسئلة لماذا تم تفكيك القائكة المشتركة لأسباب غير مبررة وهل يعقل أن تقود مشروعا يعتمد على البرلمان على حساب الميدان وهل يعقل أن تعتمد أيضا على نظام «الفزعة» والاستجداء واستنهاض الجمهور العربي بلغة التوسل في مساء كل يوم انتخابات؟ كذلك ما جدوى التمثيل العربي في الكنيست حقا وما المنطق في قيام الأحزاب العربية لإسقاط نتنياهو من الحكم ثم إسقاط بينيت ولابيد ما فتح التاب لعودة نتنياهو؟ وغيرها من الأسئلة علاوة على أسئلة خاصة بكل حزب عربي منها مثلا سؤال للجبهة برئاسة أيمن عودة (التيار الشيوعي) كيف خسرت الريادة السياسية التاريخية لدى فلسطينيي الداخل لصالح التيار الإسلامي؟ وسؤال للموحدة برئاسة منصور عباس كيف سيفعل بعدما تبين الآن أن استراتيجية «بيضة القبان» التي جاءت لاستغلال حالة التعادل بين المعسكرين الإسرائيليين على السلطة لم تعد قائمة؟ وهل تبقى الحركة العربية للتغيير برئاسة أحمد الطيبي حزب الرجل الواحد ولماذا تتحالف كل مرة مع جهة أيديولوجية مختلفة؟ وغيرها من الأسئلة والنقاط التي تنتظر إصلاحات ومحاسبات وتلخيصات واستخلاصات حقيقية كي لا تستمر حالة عدم تحمل المسؤولية السارية حتى اليوم.
“القدس العربي”