يصابُ الحقل المعرفي بالوهن والتكلس وتتآكل خلاياهُ إذا ضاق المجال على حركة الفكر، وتراوحتْ الأسئلةُ في مياه راكدة، وتم تدوير المفاهيم دون البحث عن مناخات جديدة للتنفس، بالطبع فإنَّ الفلسفة ليست استثناءً في هذه المُعادلة فمن المحتملُ أن ينتهي المطافُ بالاشتغال الفلسفي إلى تعدين أقوال تغلفُ المنظومة الفكرية بالغموض والتعقيد، إذا غابَ الإدراكُ عن الوظيفة الأساسية للمزاج الفلسفي وهي إنشاء آليات تحمي انجراف العقل نحو مزالق التدليس السياسي أو الاقتصادي أو اللاهوتي. ومما لا شك فيه أن عملية تصحيح الأعراف الفكرية تتطلبُ التدجيج بالجرأة لكشف الغطاء عن الأنساق المضمرة وتحديد العوامل التي تمدها بقوة الانتشار والترويج على نطاق أوسع إلى أنْ تكتسي طابعاً عقائدياً، ومن المعلوم أنَّ العقيدة تتويج للجمود، ومن المعضلات التي تفتكُ بالواقع الفكري وأدت إلى العزوف عن الاهتمام بهذا المعترك، هي اللغط في فهم اتجاهات الفلسفة والضبابية في رؤية المستويات التي اتخذتها منذ نشأتها في اليونان، والأدهى من ذلك أنَّ هذا النشاط العقلي هو رهن للتعريفات المبتسرة والتأويلات المُستهلكة، بحيثُ يحيلُ الحديثُ عن هذا المجالُ إلى الأحاجي والألغاز في ذهنية غير المُتخصص وبالتأكيد إن ما زاد من تعقيد الصورة هو ظهور سدنة الفلسفة الذين عمقت نظرتهم التجريدية الهوة بين الشارع والرواق الفلسفي، الأمر الذي خلف غياباً لروح الفلسفة وضموراً لفاعليتها. كما أن رفع سقف التوقع بما يمكنُ أن يقدمهُ الفيلسوف هو عامل آخر وراء التأزم والانجرار نحو مستنقع التوهم، وفي الحقيقة أنَّ الفيلسوف حتى لو كان متمرساً، لا يمكنهُ تقويض المحددات التي يقومُ عليها الأنموذج الذهني بجرة قلم.
يقولُ المفكر اللبناني عبدالرحمن مرحبا، إن الفيلسوف مهما بلغ من سداد الرأي ونفوذ البصيرة وشمول النظر لا يمتلك حلولا نهائية في جعبته، لافتاً إلى أنَّ الفيلسوف لا يخترقُ مشروطيات عصره وبيئته مهما أوتى من الحكمة نصيباً وبالتالي فإنَّ حلوله مؤقتة نسبية تختلف باختلاف الزمان والمكان. وبالتالي ليس من شأنِ هذا المبحث المعرفي تلبية كل المَطالبِ أو فتح المغاليق كلها. إذن يستدعي النهوض الفلسفي تحديد مكامن الخلل وفهم الغاية من التناول الفلسفي. والخروج من حالة التخندق ضد القيم الدينية باسم الفلسفة، صحيح أنَّ الحقائق في الدين معروفة وتمت الإجابة على الأسئلة المطروحة عن الخلق والمصير ومصدر الكون، في ما البحث لا يزال قائما لأفق جديد للتفكير في المدار الفلسفي، لكن هذا التباين في المنهج لا يعني التصادم بالضرورة بين الاتجاهين. ولا يدعي الباحث الفلسفي أنَّ الرواق أو الأكاديمية أو الحديقة أو الليسوم ستكون بدائل للجامع أو الكنيسة أو المعبد.
الاختلاف
ومن الخطأ الفادح أن تتحول الفلسفة إلى العقيدة لأنَّ غاية الفلسفة تتمثلُ حسب رأي آلان باديو في تعويض الخطاب التسلطي بخطاب حجاجي أكثر من ذلك فإنَّ النقد هو جوهر عملية التفلسف، ما يعني أنَّ إمكانيات الانشقاق عن السلف تقع ضمن برنامج التيار الذي يعبرُ عن عصره. هنا يطرحُ السؤالُ نفسه لماذا العودة بالاستمرار إلى المدارس الفلسفية السابقة، والتأمل في مبادئها التي استقامت على أكتاف ظروف تاريخية معينة؟ ألا يوجد التناقض بين القول إنَّ كل فلسفة هي حاملة لخصوصية بيئة وزمن المنشأ، ومن ثمَّ الاستئناف من المعمار الفلسفي غير المُعاصر؟ ألا يجدرُ بنا أن ندفن الماضي في تربة الماضي؟
فعلا لقد حققت البشرية اختراقات نوعية على الأصعدة كافةً، لكن معرفة تاريخ الفلسفة ترسخُ الوعي بمواصفات حركة الفكر ومتطلبات الوثبة العقلية. كما أنَّ النظرة الفلسفية مطبوعة بالشمول والاتساع في الأفق، غير منكفئةٍ على بعد واحد لذلك فمن المتوقع أن يكون الحديثُ عن الفلسفة متسلسلاً من البدايات العظيمة عندما بدأَ التفكيرُ العقلي بمشاكسة طوق الأساطير، ولم يعد الإنسان باحثاً عن التفسير للظواهر الطبيعية في صندوق الخرافة. ضفْ إلى ما سبق فإنَّ هواجس الإنسان عن تحديات وجودية ونشدانه للسعادة وتوتره بشأن النهاية والمصير وسؤاله الأبدي عن الجبر والحرية والغاية من وجوده، كل ذلك يكتسبُ صفةً إشكالية ما برحت تؤرقُ العقل البشري، ومن المعلوم أنَّ أقطاب الفلسفة اليونانية قد تناولوا هذه الأمور بآلية منتظمة. صحيح أنَّ العلوم الدقيقة قد قطعت أشواطاً كبيرة ومن خلالها توجت المساعي البشرية بفتوحات رائدة، لكن في المقابل زاد الشعور بالتوتر والقلق، وتبعثرت خريطة التفكير نتيجة ما تعدُ به الحياة من الفرص وعدم تلبية الواقع، إلا بنزر يسير منها. إذن ما يعيدُ الهدوء إلى الأنفس المرهقة في هذا الوضع ليس إلا حكمة الفلاسفة، وأدركَت النخب المُفكرة في الغرب هذه الحقيقة، لذا ترى مبادراتٍ لضخ الحيوية إلى الفلسفة على اعتبار أنها أداةُ لحسن التدبير على المستوى الفكري، ومن الواضح أنَّ مستند هذه الروحية الفلسفية موجودُ في منهج سقراط، كذلك في التشكيلة التي أعلنها الرواقيون والأبيقوريون. كما أنَّ نيتشه اتخذ من حياته وتجاربه الشخصية مختبراً لصياغة مقولاته الفلسفية الهادفة إلى نفض الغبار عن مدخنة العقل. فبنظره من لا يستطيعُ التفكير إلا إذا كان الكتاب في يده، فهو يخسرُ استقلاليته في التفكير، وفي الواقع إن الأولوية لدى الفلاسفة القدماء كانت للتفكير والتأمل قبل القراءة والتورط في الجفاف التنظيري. لم يكونوا مقيدين بكيانات لفظية منعزلة عن الشارع، فيما ينتهي دور أقرانهم المُعاصرين بالتعليق على الفلسفة. ومع ذلك فإنَّ الوسط لا يخلو من محاولاتٍ للعودة بالفلسفة إلى طينة الواقع وتحريرها من صياصي التجريد. وغواية الاسترسال في الجدل حول المفاهيم الخلافية.
ما يعيدُ الهدوء إلى الأنفس المرهقة في هذا الوضع ليس إلا حكمة الفلاسفة، وأدركَت النخب المُفكرة في الغرب هذه الحقيقة، لذا ترى مبادراتٍ لضخ الحيوية إلى الفلسفة على اعتبار أنها أداةُ لحسن التدبير على المستوى الفكري، ومن الواضح أنَّ مستند هذه الروحية الفلسفية موجودُ في منهج سقراط، كذلك في التشكيلة التي أعلنها الرواقيون والأبيقوريون.
جدلُ مُتجدد
ينزلُ ما يشتغلُ عليه الفيلسوف الفرنسي أندري كونت سبونفيل ضمن المساعي الرامية إلى إعادة التعريف بمفاهيم فلسفية، مُنطلقاً من مُعاينة الواقع الإنساني وما يعتملُ في دورة الحياة المحدودة بالنسبة للفرد من التحولات، متأملاً في هذا السياق كل ما يثيرُ الجدلَ إذ يفتتحُ كتابه «الحياة الإنسانية» بمُناقشة إشكالية بداية التكوين، مشيراً إلى أن نظرية الانفجار العظيم لا تفسرُ ولا تفك العقدة، لأنَّ هذه الحلقة لا تُفسر إلا بشيء آخر وهكذا دواليك تتوالى سلسلة من الأسباب التي لا تُفسرُ بذاتها والمثير للغرابة أنَّ ما ينشرُ عن اكتشافات علمية جديدة يستقطب الرأي العام العالمي ويتفاعلُ الجميع مع الأخبار الواردة بهذا الشأن، إلى أن يبدو الأمر كأن العلم قد تحول إلى ميتافيزيقيا شعبية في العصر الحديث، تصرف النظر عن الأزمات الحقيقية. أيا يكن الوضع فإن سوبونفيل يديرُ دفة الكلام نحو الطرف النقيض مستدعياً لايبينتس، الذي كان يؤمنُ بوجود إرادة متعالية وهي علة لسلسلة من العلل العرضية، ويقتفي العديدُ من الفلاسفة أثره في إثبات وجود الله من خلال الوجود العرضي للعالم، والأهمُ في هذا الصدد هو تعقيبُ المؤلف على هذا الاستقطاب، موضحاً بأن ليس لدينا علم بشأن ما كان يوجدُ قبل الكون وليس بمقدورنا أن نعلمَ شيئاً، وما يستوي فيه المؤمنون والمُلحدون هو جهل الطرفين بحقيقة السر. وبهذا كأنَّ كونت سبونفيل يوافقُ مواطنه سارتر، الذي لا يقبلُ بفرضية «سبب» الموجه بالمعنى الأول، ولا يستسيغ في الوقت نفسه التفسير المادي الجدلي، لأنَّ أنصار هذا الاتجاه حسب افتراض صاحب «الوجود والعدم» يضعون فكرة أزلية المادة وضعاً كمعطى مباشر. واللافتُ بالنسبة لأندري كونت سبونفيل هو سؤال لايبينتس «لماذا يوجدُ شيءُ بدلاً من لا شيء؟» وما يستخلصُ إليه أخيراً أن العالم كان موجوداً قبل الكائن المتفرد، وهو متموضعُ في قلب اللغز وتقعُ عليه مسؤولية التحول إلى الإنسان ومعنى ذلك اكتسابك للماهية الإنسانية اختيار. إذن لا يمكنُ قطع الشك باليقين حول البداية وإنْ كانت ثمة بداية أصلاً. يفردُ صاحب «هل الرأسمالية أخلاقية؟» مبحثاً لمُناقشة الولادة بوصفها فرصة وجودية، كما أنَّ الحرية هي ما يتوصل إليه الإنسانُ من خلال تراكم الخبرة وليست معطياً مُسبقاً. فبرأي سبونفيل أنَّ الحياة مغامرة أكثر من أن تكون قدراً. والواجبُ الوحيد بالنسبة للإنسان هو إدراك قيمة فرصته وعدم التفريط في الحاضر. بعدما يتناولُ مرحلة الطفولة والمراهقة يضيفُ المؤلفُ مفهوم الحُبَ إلى مائدة النقاش، مذكراً بقول أرسطو بأنَّه لولا الحب للحياة لا يحيا الإنسان، كما تقعُ في هذا المفصل على تفسير سبينوزا للحب، إذ يعزوه إلى ضعف في طبيعتنا وهذا ما يحدو بنا أن نحب بعض الأشياء ونتحد بها. عليه يمتدُ خيط الحديث لمتابعة موقع العمل في حياة الإنسان، موضحاً دوره في تذوق الراحة داعما رؤيته بمقولة أرسطو «العمل يفضي إلى الراحة، بينما لا تفضي الراحة إلى العمل». ولا يتجاهلُ كونت ثنائية الألم واللذة مكتشفاً على هذا المستوى ما يتقاطع فيه الرواقيون والأبيقوريون، على الرغم من وجود الخلاف بين أتباع المذهبين، لكن لا ينكرُ أصحاب زينون بأنَّ المتعة أجدر من الألم، كما لا يستنكفُ أصدقاء الحديقة من الاعتراف بأنَّ الفضيلة أكثر متعة من الرذيلة.
الحيوية
يتسعُ مدار النقاش لإضاءة مفاهيم الموت والديمومة والخلود، ومن نافلة القول إنَّ هذا الثالوث هو الذي يأخذُ بتلابيب الفكر البشري، منذ أن صار الإنسان كائناً مفكراً، لعل ما ينقلهُ المؤلف عن المخرج السينمائي وودي آلن عن موقفه من الموت «ليس الأمر أنني خائف من الموت، لكنني أفضل أن أكون في مكان آخر عندما يحين أوانه» يعبرُ بسخرية رشيقة عن القلق المتأصل من الموت، يأبى سبونفيل أن يكونَ الخلود أو السعادة موضع الرجاء، بل الأجدرُ بنا اكتساب المراس في ممارسة الحياة، مدركين أنَّ الرغبة المتوهجة في الاستمرار هي شفيرة النمو والجودة الحياتية. هنا من المناسب الإشارة إلى المراد من الحيوية في الفلسفة وهو الانخراط في الواقع والمرونة في إدراك ما يمكنك مواجهته وتغييره والانصراف عن الأشياء التي تستنزف الوقت والطاقة دون نتيجة. ربما كل ما ورد آنفاً ليس مقنعاً أو يبدو ترفاً لغوياً لكن يستحيل إنكار حقيقة، وهي إنَّ الإنسان كائن مُتفلسف وقد يكونُ مصدر فلسفته تفكيرا عقلانيا متدبراً، أو قد يستمدُها مما تراكم في مخزونه اللاواعي، أو من الرغبات المنزوية والانفعالات المكتومة والتعميمات الخاطئة. أخيراً إنَّ أعراض الأزمة في الفلسفة وأسباب انحسارها تتمظهر في الابتعاد عن الحياة، كما أنَّ غزو الخرافات المادية وتفاقم الطموح المزيفة لواقعنا هي نتيجة خلو الحياة من الفلسفة.
كاتب عراقي
“القدس العربي”