عرف النقاش حول كرة القدم، الرياضة الأكثر شعبية في العالم حتى الآن، تناقضاً دائماً ومستمراً. فقد شهدت اللعبة عبر تاريخها كثيراً من الحوادث العاصفة، وعلى رأسها العنف داخل الملاعب وخارجها؛ العنصرية والحساسيات القومية والإثنية والثقافية؛ انفجار الصراعات السياسية والطبقية؛ وأحياناً مجازر وسفك دماء وحروب بين دول. وكلما تصاعدت الصراعات، غير الودية، حول كرة القدم، يزداد الحديث عن «أخلاق اللعبة» و«الروح الرياضية» عموماً، التي من المفترض أن تجعل الأفراد والجماعات يتقبّلون الربح والخسارة، وإدارة التنافس ضمن قواعد وأخلاقيات منضبطة، تؤمّن المتعة والإثارة في الوقت ذاته.
ربما كان هذا التناقض اعتيادياً، ومماثلاً لما يحدث في كل مجالات الحياة الأخرى، بينما هو كائن بحكم الأمر الواقع، وما يجب أن يكون على مستوى القيم والتصورات المثالية. وقد يكون الأجدى فهم «الروح الرياضية» بشكل مركّب، كأي «روح» أخرى، أي أنها تحوي كل أشكال الانفعالات والأفكار والرغبات: حقّقت كرة القدم نمطاً تواصلياً حميمياً وممتعاً للبشر طيلة عقود طويلة، وكانت انعكاساً لكل ما في حياتهم، بما فيه السياسة والعنف والمحبة والولاء، وبفضلها تأسست روابط صلبة بين الناس، كان لها شأن كبير في أهم الوقائع الاجتماعية. دول مثل الاتحاد السوفييتي ويوغسلافيا في الماضي، وفرنسا حتى وقت قريب، استخدمت الرياضة وكرة القدم لتحقيق التآلف بين مكوناتها الإثنية والدينية المتنوّعة، ودمج أقلياتها؛ فيما استطاع بعض روابط المشجعين الوقوف في وجه السلطات في بلدان متعددة، وتصدّر الأعمال الاحتجاجية ضدها. وحتى اليوم ما زالت روابط التشجيع هدفاً مفضّلاً لنشاط أنصار اليمين واليسار المتطرّف حول العالم.
بهذا المعنى فلا يمكن الحديث عن «روح» لكرة القدم، أو حتى عن متعتها وإثارتها، إذا تم عزلها عن اثنين من أكثر العوامل تعلّقاً بها: الولاء، أي الارتباط بجماعة معينة ومحبتها، سواء كانت بلداً أو منطقة أو طبقة أو قومية؛ والعصبية، والمقصود بها الجهد الموجّه لنصرة هذه الجماعة، إن لم يكن عبر قواعد الرياضة نفسها، فمن خلال التضامن شديد الصلابة للمشجّعين، أثناء الصراعات والاحتجاجات أو الشغب. كرة القدم كانت دائماً رياضة سياسية، ذكورية، اجتماعية بالعمق.
قد يكون استخدام صيغة الماضي في ما سبق ضرورياً للغاية، فاللعبة شهدت تغيّرات كبيرة في السنوات الماضية، ويبدو أنها فقدت كثيراً من «روحها» ما يجعل شغف كثيرين من متابعيها القدماء يقلّ بالتدريج. واليوم، مع اقتراب منافسات كأس العالم، يبدو أن كرة القدم تواجه أسئلة، قد تعكس كثيراً من أحوال عصرنا: هل ما يزال الولاء والعصبية، في صيغتهما الرياضية، مقبولين في عالمنا، ومنطلقاً لتأسيس روابط اجتماعية تتمتّع بشيء من الشرعية؟ وهل يمكن أن تستمر اللعبة، بكل ما ارتبط بها من تراث، في حال تم تشذيب أو تدجين هذين العاملين؟
بنك الانفعالات
لا يمكن اختزال الولاء في كرة القدم بالتطرّف، أو اعتبار عصبيتها وعنفها مجرد ظاهرة تخريبية، فكلا العاملين كانا أساسيين في توجيه انفعالات البشر بشكل اجتماعي بنّاء، يعطي معنى مقبولاً لكثير من النزعات التي لا يمكن كبتها، وتحقيق حد أدنى من السيطرة عليها، بما يتسق مع تكوين جماعة ما، لا بدّ أن يكون لها حضورها السياسي. اليوم لم يعد تأسيس الجماعة، أو على الأقل تمثيلها عبر الرياضة، الشاغل الأساسي للقائمين على كرة القدم، بل تقديم «عرض» يحوي أكثر العناصر بريقاً ولفتاً للانتباه. من الصعب اليوم تكرار ظواهر «ولائية» وحكايات درامية، مثل قصة اللاعب الأرجنتيني ماردونا مع نادي نابولي، أو الإيطالي توتي مع نادي روما، بل نرى نجوماً يقدّمون صورة مثالية عن ذواتهم الفردية: بنى عضلية متكاملة، أرقاما غير مسبوقة في السرعة والمناورة والتسديد؛ مرونة كبيرة في التنقّل والاندماج في نوادٍ وبيئات لعب جديدة، ما يرفع قيمتهم السوقية. بينما غيّر كثير من الأندية، مثل «باريس سان جرمان» الفرنسي، و«مانشستر سيتي» الإنكليزي، وجهه الاجتماعي التقليدي، ليصبح معبّراً عن مستثمرين وممولين عابرين للجنسيات؛ أو برزت أندية جديدة قوية، دون «أصل» اجتماعي معروف، مثل «بيراميدز» المصري.
يختلف مفهوم «العرض» الرياضي المعاصر بشدة عن أقدم أسلافه، أي العرض الروماني، عندما كان المشاهدون، ذكور المدن الرومانية الأحرار في أغلب الأحيان، يجتمعون في الحلبات ليشاهدوا أقصى درجة ممكنة من العنف، المختلط بالرغبة في تحصيل المجد والاعتراف.
وبما أن كرة القدم لم تعد معنيّة بالولاء بقدر اهتمامها بـ«العرض» فتقتضي المصلحة أن يكون عرضاً آمناً، بل و«عائلياً» إلى أقصى درجة ممكنة. إذ لا يمكن تسويق اللعبة على نطاق أوسع، إذا استمر المشجعون الذكور السكارى، العنيفون والمثيرون للشغب، بالسيطرة عليها. ربما كان هؤلاء مفيدين عندما كانت الغاية بناء مجد النادي أو المنتخب الممثّل للبلاد، لكنهم اليوم يُنفرون فئات كثيرة، يمكن اعتبار أفرادها زبائن محتملين لتوسيع سوق اللعبة. ولذلك فإن تخليص الكرة، ولو بشكل نسبي، من ذكوريتها، بات ضرورة لا يمكن تجاوزها، ضمن نموذج الأعمال الحالي.
يختلف مفهوم «العرض» الرياضي المعاصر بشدة عن أقدم أسلافه، أي العرض الروماني، عندما كان المشاهدون، ذكور المدن الرومانية الأحرار في أغلب الأحيان، يجتمعون في الحلبات ليشاهدوا أقصى درجة ممكنة من العنف، المختلط بالرغبة في تحصيل المجد والاعتراف. اليوم قليلاً ما يجتمع البشر، بل غالباً ما يتابعون، عبر بث حي، يصلهم باشتراك مدفوع، عرضاً يحوي عناصر شديدة التنوّع، يستثير الانفعالات على المستوى الأكثر أمناً وقابلية للتحكّم، وبالتأكيد الأكثر سطحية. لا مجال هنا لكثير من الغضب والعنف والفخر والشهوة، بل لمتعة، انتُزعت كل أعراضها الجانبية الممكنة، وبالتالي أثمانها الأخلاقية. سبق لسلافوي جيجيك طرح مثال «القهوة دون كافيين» بوصفها نموذجاً للمتعة الآمنة المطلوبة في عصرنا.
يمكن القول إن كرة القدم الحالية تستثمر في «بنوك انفعالات» وهو تعبير مستمد من المفكر الألماني بيتر سلوتردايك، الذي تحدث عن «بنوك الغضب» ضمن المنظومة الليبرالية: يتم تدجين عوامل الغضب والرغبة والعصبية، وما يترتب عليها من قيم، مثل الكبرياء والطموح ورفض الظلم، ضمن قنوات سلطوية آمنة «تؤجّل الغضب» ثم تعيد استثماره بما يتناسب مع قواعد وغايات التحكّم البيروقراطي، الذي ألغى السياسة لمصلحة الإدارة. لا مثال لـ»تأجيل الغضب» أفضل من أسلوب إدارة كرة القدم المعاصرة، إذ باتت كل الانفعالات المرتبطة باللعبة، بما فيها الولاء والعصبية الوطنية والمناطقية، قابلة للتشذيب والتحكّم والتجميد، ومن ثم إعادة الاستثمار، ضمن «عرض» مُنتج للقيم المالية.
استثمار غير آمن
إلا أن «عرض» كرة القدم قد لا يستمر بتوليد الأرباح بالشكل المتوقّع، إذا فقدت اللعبة شعبيتها القديمة، بوصفها الرياضة الأولى، والحدث الاجتماعي-الثقافي الموسمي الأبرز، وأمست مجرّد ظاهرة أخرى، من ظواهر وسائط البث Streaming Media اللافتة للانتباه. محاولات تسويق اللعبة خارج جمهورها التقليدي لن تؤدي غالباً إلى أكثر من انتباه محدود وغير مخلص، من فئات المشاهدين الجدد، في حين سيتخلّى المشجعون المخلصون عن حماسهم القديم، لتبقى كرة القدم «الحقيقية» في عرفهم مجرد ذكرى نوستالجية. يصعب التفكير في الاستثمار بـ»الرياضة الأكثر شعبية» بالانفصال عما يمكن تسميته بنيتها التحتية الاجتماعية، فمهما ضخّ المستثمرون من أموال في الملاعب والأندية والسلع الثانوية المرتبطة بالرياضة، يبقى الشكل الاستهلاكي الأساسي للكرة قائماً على حضور بنى اجتماعية، باتت تعتبر اليوم تقليدية، وربما على وشك الاضمحلال التام، أي العائلة الأبوية والمنطقة والطبقة والمواطنة، وغيرها من المؤسسات «الذكورية» المرتبطة بالدول الوطنية الحديثة، بمفهومها الكلاسيكي.
قد يكون الاستثمار الحالي الهائل في كرة القدم فقاعة أخرى من الفقاعات المالية، التي ستنفجر قريباً، فلا يبقى من اللعبة إلا أطلال نوادٍ أنفق عليها الكثير، وجمهور فاقد للرغبة والإخلاص.
ما بعد الكرة
ربما يكون انحلال البنى الذكورية، العاشقة بطبعها لكرة القدم، أمراً إيجابياً من منظور ما، إذ أنها ارتبطت بظواهر مثل المؤسسات الانضباطية والعنصرية واضطهاد النساء ورُهاب الأجانب. وقد يكون تقبّل تغيّر طبيعة اللعبة، وبالتالي فقدانها مكانتها البارزة، إدراكاً واعياً لـ»روح العصر» الذي لن يقبل أحداثاً ومناسبات عامة، تبني نفسها على استبعاد اهتمامات ورؤى وأذواق فئات كثيرة. رغم هذا فإن عالماً دون روابط اجتماعية، تقوم على «العصبية» بشكل من الأشكال، يطرح أسئلة فعلية عن إمكانيات التضامن بين البشر، وقدرتهم على مواجهة أشكال الاستغلال والإفقار التي يتعرّضون لها. عالم ما بعد كرة القدم، بصيغتها الأسطورية القديمة، قد يكون «فقيراً» بكل دلالات الكلمة، ليس فقط بالمعنى السياسي، الذي تكلّم عنه مفكرون مثل سلوتردايك، أو الاقتصادي/ الاجتماعي، الذي يركّز عليه اليساريون عادةً، بل بالمعنى الثقافي أيضاً. الأفراد المعزولون، الحريصون على «مساحاتهم الخاصة» الذين يخترقهم «البث» في كل مكان، وفي جميع تفاصيل حياتهم، غير قادرين على إنتاج مساحات عامة، يتم فيها تداول الأفكار والقيم والرموز. وقد يكون هذا سبباً للحزن على ماضي كرة القدم، حتى بالنسبة لغير المولعين بها.
كاتب سوري
“القدس العربي”