يبدو أنّ الغرب اهتمّ ولمّا يزل لِما وصله من أعمال ابن رشد (1126-1198)، بدليل إدراج هذا الفيلسوف الأندلسيّ، المعروف بـ"فيلسوف قُرطبة" أو بـ"الشارح الأكبر" بحسب الشاعر الإيطاليّ دانتي، في المجموعة التي اعتنى القيّمون عليها بإعادة نشر النصوص الفلسفيّة الخالدة التي قويت على الزمن وعصيت عليه، وهي المجموعة التي أصدرتها صحيفة "لوموند" الفرنسيّة اليوميّة بالتعاون مع دار فلاماريون الفرنسيّة أيضاً، وخصّت بها كبار الفلاسفة والمفكّرين والكتّاب. وبدليل إدراجه أيضاً، منذ زمنٍ ليس ببعيد، في البرنامج التعليميّ الفرنسيّ في الصفوف النهائيّة. فماذا يقول أرسطوطاليس في العقل؟ وكيف يشرح ابن رشد رؤية أرسطوطاليس إلى العقل؟
يقول أرسطو إنّ النَّفْس صورة الجسد، وليست جوهرًا منفصلاً عنه، كما عند معلّمه أفلاطون. فلمّا كان الجسد الحياة بالقوّة، غدا هذا الجسد، بفعل النَّفْس وبفضلها، الحياة بالفعل. وعليه، فالنَّفْس هي المبدأ الحيويّ، وعندها من التقاطع والتداخل والترابط مع النَّفْس النباتيّة (التي تؤمّن تغذية النبات وتناسله) ومع النَّفْس الحيوانيّة (التي تضمن التحسّس عند الحيوان وتحرّكه)، وعندها بالتالي من التعقيد ما يجعلها أيضاًً عاقلة (التفكّر): فالنَّفْس العاقلة ليست منفصلة عن النَّفْس النباتيّة والنَّفْس الحيوانيّة، بل إنّها تستند إليهما وتتكئ عليهما في فعل التفكّر الذي يتوسّطهما على كلّ حال. وإلى هذا الفعل المحايث للتغذية والتناسل النباتيّين من جهة أولى، وللتحسّس والتحرّك الحيوانيّين من جهة ثانية، يضيف أرسطو العقل (noûs) المفارق والمتعالي، وهو على مستويَين: "العقل بالقوّة" و"العقل بالفعل". وقد ماثله بعضهم بالنَّفْس على طريقة أفلاطون أو على طريقة القدّيس توما الأكوينيّ، وحتّى بالألوهة، على نحو ما ذهبَ إليه اسكندر الأفروديسيّ الذي ولدَ في القرن الثاني الميلاديّ وتوفّيَ في القرن الثالث. أمّا ابن رشد، فقد ماثل "العقل بالقوّة" عند أرسطو بما دعاه "العقل الهيولانيّ" أي المادّيّ، كما ماثل "العقل بالفعل" عند أرسطو أيضاً بما دعاه "العقل الفعّال". والعقلان غير فانيين في رأيه. إنّهما يتمايزان ويتّصلان في فعل التعقّل أو في ما يدعوه ابن رشد "العقل بالمَلَكَة" الملازم لفعل التفكّر عند الإنسان. الواقع أنّ هذا التأويل الرشديّ للعقل عند أرسطو قد أثار وقتذاك حفيظة الكنيسة الكاثوليكيّة التي دانته مرّتين (1270م. و1277م.). وكان القدّيس توما الأكوينيّ قد فنّد هذه "الهرطقة" الرشديّة في كتابه "وحدة العقل ضدّ الرشديّين" (1269م).
قول الكاتب الأرجنتينيّ خورخي لويس بورخيس (1899-1986) في كتابه "البحث عن ابن رشد" (1967) إنّ الإنسان عند ابن رشد لا يفكّر، بل ثمّة مَن يتناول هذا الإنسان بالتفكّر أو قلْ ثمّة مَن يفكّر في داخله. ثمّ يسأل: هل يلقى الإنسان حتفه حين لا يعود يتناول بالتفكّر ذلك الذي ارتأينا أنّه كان يتناوله بالتفكّر؟ على كلّ حال، يبدو أنّنا نقع على ما قد يقابل هذا التأويل الرشديّ لأرسطو عند كلٍّ من المفكّر الألمانيّ فريدريك نيتشيه ومؤسّس علم التحليل النفسيّ زيغموند فرويد وعند جماعة البنيويّين: فلنيتشيه رأي مفاده أنّ الأنا عاجزٌ عن التفكّر بما يجعله يفكّر فيما اعتبرَ فرويد أنّ الـ"هو" (das Es) يجعل الأنا خاضعاً للنَزَوات اللاواعية التي تحكمه وتتحكّم فيه، وهي نزوات موروثة وفطريّة من جهة، ومكبوتة ومكتسبة من جهة ثانية، بحسب ما رأى فرويد. أمّا البنيويّين، فقد أنعموا النظر في البنى الاجتماعيّة والاقتصاديّة واللسانيّة وخلافها وأفردوا لها حيّزاً كبيراً في دراساتهم على حساب الأنا المفكّر والناطق فيما أعلنَ الفيلسوف الفرنسيّ ميشال فوكو (1926-1984) "موت الإنسان".. .
الواقع أنّ الرجوع إلى ابن رشد مفيد جداً لا سيّما في ما يتعلّق بمسألة العلاقة بالآخرين، كالأغراب من الوثنيّين وخلافهم، وبالتحديد بمَن دعاهم ابن رشد في البداية: "القدامى"، وفي مرحلة لاحقة: "الأمم السالفة"، وهي الأمم التي ينتمي إليها بالطبع أرسطو وأفلاطون وخلافهما. ولعلّ ابن رشد اشتقّ مفردة "السالفة" في العبارة السابقة من جذر "سَ لَ فَ" لمقابلة عبارة "السلف الصالح" التي تعني الكثير بالنسبة إلى الذين يتطلّعون إلى البدايات ويحنّون إليها، ويودّون بالتالي العودة إلى الأصول. السؤال: هل يستوي عند ابن رشد السلف الصالح والأمم السالفة؟ يقول في "فصل المقال فيما بين الشريعة والحكمة من الاتّصال" إنّه من الغباء أن يجهد أحدنا في استنباط ما سبقَ أن استنبطه الآخرون. فلماذا لا ننهل من معين أولئك الذين سبقونا على دروب المعرفة، بغضّ النظر عن عرقهم ودينهم ولسانهم؟
[ المؤلِّفان: ابن رشد وأرسطوطاليس (Averroès et Aristotelès) .
[ عنوان الكتاب الأوّل: "تفسير الكتاب الثالث لأرسطوطاليس في النَّفْس" لابن رشد.
[ عنوان الكتاب الثاني: "Peri psukhês"،"De anima" أي "في النَّفْس" لأرسطوطاليس.
[ مجموعة لومود دي لا فيلوسوفي ("عالَم الفلسفة")، منشورات فلاماريون، تمّوز 2008، 454 صفحة (باللغة الفرنسيّة)
"المستقبل"