توحي الحشود العسكرية البرية التركية في الميدان السوري بأن أنقرة تسير في خطة من مسارين، الأول عبر التصعيد العسكري، بهدف تحقيق ثمار في المسار الثاني عبر مفاوضات تنتهي بدخول قوات النظام السوري محل قوات سوريا الديمقراطية “قسد” في المناطق الحدودية لتجنيب المنطقة الحملة البرية التركية الموسعة (التي تستهدف ثلاث مناطق في ريف حلب). وتضغط أنقرة بأنه “لم يبق أمامها إلا إعلان ساعة الصفر للحملة البرية على ريف حلب”.
إلا أن الحملة البرية ضد القوات الكردية محكومة بظروف داخلية وخارجية، عبر تفاهمات مع الدول الفاعلة في الشمال والمتمثلة بروسيا والولايات المتحدة، وهو ما برز من خلال تسريبات حول الوساطة التي تقوم بها موسكو، من أجل تجنيب المنطقة حملة برية ضد مناطق نفوذ قوات سوريا الديمقراطية (قسد).
فقد كشفت مصادر تركية خاصة لـ”القدس العربي” عن وجود مباحثات جادة بوساطة روسية من أجل انسحاب الوحدات الكردية وانتشار قوات النظام السوري على الحدود السورية مع تركيا كبديل عن العملية العسكرية البرية التي تهدد تركيا بتنفيذها منذ أيام شمالي سوريا بهدف طرد الوحدات الكردية وإقامة شريط آمن بعمق 30 كيلومتراً.
وأمس، قال المتحدث باسم الرئاسة التركية إبراهيم قالن، إن “العملية العسكرية التركية في شمال سوريا ضد التنظيمات الإرهابية قد تنطلق في أي وقت”، وأضاف: “يمكن تنفيذ العملية العسكرية بعدة طرق، وتركيا هي من سيحدّد موعدها”، معتبراً أن “العمليات العسكرية في الشمال السوري من شأنها المحافظة على وحدة الأراضي السورية”.
العامل الخارجي
وبحسب مصدر تركي رفض الكشف عن اسمه، فإن المباحثات متواصلة منذ أيام مع روسيا بشكل رسمي ورفيع المستوى ومع النظام السوري بوساطة روسية من أجل سحب الوحدات الكردية من مناطق حدودية مع تركيا مقابل انتشار قوات النظام السوري فيها، وهو أمر لم تعارضه تركيا مؤخراً في ظل تأكيدها على إمكانية الحوار مع النظام السوري وإمكانية حصول لقاء بين الرئيس التركي رجب طيب أردوغان ورئيس النظام السوري بشار الأسد.
وأوضح المصدر أن المباحثات لا تزال متواصلة وأنه من المبكر الجزم بإمكانية التوصل إلى اتفاق، لافتاً إلى أن العملية العسكرية تبقى خياراً قائماً وبقوة وأن أنقرة أتمت استعداداتها لها وستقوم بها في حال فشل المباحثات والحصول على ضمانات قطعية بـ”تطهير المنطقة من كافة العناصر الإرهابية”، مضيفاً: “بدون ذلك ستبدأ العملية العسكرية”.
وطالبت أنقرة بانسحاب قوات سوريا الديمقراطية من كل من منبج وعين العرب وتل رفعت في ريف حلب، مقابل عودة مؤسسات النظام السوري، إلى هذه المناطق لضبط المدن، كما طالبت بعودة القوات الأمنية وحرس الحدود.
إحرار أنقرة
وفي تصريح للمتحدث باسم الرئاسة التركية إبراهيم قالن، الثلاثاء، قال إن العملية العسكرية البرية في سوريا ضد “قسد”، قد تبدأ في أي وقت، وذلك يعتمد على تقييم المراجع المعنية في تركيا.
وحول الظروف الخارجية، أبدى الكاتب والباحث التركي محمد طاهر أوغلو اعتقاده بأن الحملة البرية “لا تزال حتى اللحظة رهن المفاوضات والمناقشات التركية – الروسية، والتركية – الأمريكية، لاسيما بسبب وجود خطوط تماس وقوات عسكرية روسية وأمريكية منتشرة على الأرض، لذا فإن أنقرة مضطرة لهذه الترتيبات”.
وقال طاهر أوغلو لـ “القدس العربي” إن “المؤشرات لا توحي حتى الآن، بأن أنقرة قد تلقت رسائل إيجابية بخصوص الحملة البرية الموسعة” واستطرد قائلا “رغم ذلك أنقرة مصرة أكثر من أي وقت مضى على موقفها، بشن العملية البرية، ورأينا مؤشرات واقعية على الأرض كالغارات الجوية المكثفة التي تضرب مواقع قسد”. وتحدث الباحث التركي، عن إصرار تركي عالي المستوى وغير مسبوق، وهذا يعني وفق قوله إن “تركيا تنوي بالفعل شن العمية البرية، ولن تخرج صفر اليدين”.
يقول “تلفزيون سوريا” المقرب من المعارضة السورية إن قائد القوات الروسية في سوريا ألكسندر تشايكو وجه “تحذيراً أخيراً” لقسد بشأن العملية العسكرية التركية المرتقبة، وذلك خلال اجتماع جرى مع مظلوم عبدي قائد “قسد” في الحسكة الأحد، حيث أخبره القائد الروسي بأن “تركيا مُصرة على شن العملية وأن موسكو غير قادرة على وقف العملية بدون منح تركيا ضمانات أمنية حقيقية”، بحسب المصدر الذي قال إن الضمانات التي تطلبها أنقرة تتمثل في “سحب قسد كامل قواتها ومؤسساتها من عين العرب ومنبج وتل رفعت وتسليم المنطقة للقوات الروسية قبل عودة النظام إليها” وأكدت ذلك أكدت وكالة الأنباء الفرنسية “أ ف ب”.
وانتقد عبدي موقف الحليف الأمريكي واصفاً إياه بـ”الضعيف”، وقال: “يجب أن يكون هناك موقف رادع وأكثر قوة من كافة الأطراف المعنية بهذا الملف”، محذراً من أنه “في حال نفذت تركيا تهديداتها فإننا سنكون مضطرين إلى توسيع دائرة الحرب لتشمل كامل الحدود السورية.. بالنسبة لنا، ستكون معركة وجود”.
وكشف عبدي عن أن ما يتم نقاشه (مع الجانب الروسي) هو “التزام الأطراف بتفاهمات 2019″، مضيفاً “لا توجد لدينا مشكلة في زيادة أعداد القوات الحكومية”، في إشارة إلى الاتفاق الذي جرى التوصل إليه عام 2019 وينص على انتشار قوات النظام السوري في مناطق حدودية مع تركيا وتسيير دوريات روسية، معتبراً أن مسألة عودة النظام السوري لتلك المناطق “مرتبط بالتوصل إلى حل سياسي مع حكومة دمشق”.
ويبدو سيناريو انتشار قوات النظام السوري في مناطق كتل رفعت ومنبج وعين العرب التي تتداخل مع مناطق سيطرة المعارضة السورية المدعومة من تركيا معقداً للغاية. وقبل أيام، حدد أردوغان أهداف العملية البرية الجديدة وهي مناطق تل رفعت (شمال حلب) ومنبج (شمال شرق حلب) وكوباني/عين العرب (شمال الرقة)، في إطار هدفه الأوسع بإقامة ما يطلق عليه “منطقة آمنة” بعمق 30 كيلومتراً تمتد حتى الحدود العراقية اقصى شمال شرق سوريا. ولكن، يبقى السؤال المركزي: ماذا لو رفض الجانبان الروسي والأمريكي التوغل البري التركي… وما هو أقصى ما ستقدمه واشنطن لامتصاص الغضب التركي؟
محمد طاهر أوغلو لا يتوقع تراجع تركيا عن الحملة البرية بشكل عام، و”لكنها قد تشن حملة محدودة تركز بالدرجة الأولى على الغارات الجوية، تستهدف المواقع الهامة لـ”قسد”، وذلك لانتزاع السيطرة على تل رفعت لاسيما مع وجود النفوذ الروسي في المنطقة، فالعملية بالنسبة لتركيا قد تكون أسهل مقارنة مع مواقع النفوذ الأمريكي، والمفاوضات مع موسكو مريحة أكثر بالنسبة لأنقرة”.
ويضيف “ستحاول تركيا السيطرة على بعض المناطق، ولكنها وقتئذ لن تكون مستعدة لشن حملة عسكرية برية موسعة تصل إلى عين العرب ومنبج بدون رضا أمريكي”. وفسر المتحدث، إصرار المسؤولين الأتراك على موقفهم، بأنه نتيجة “الظروف الحساسة التي يعيشها الأمن القومي التركي، واقتراب موعد الانتخابات وأمام هذا الإصرار والعزيمة، فإن تركيا ستخرج بطريقة ما، بنتائج مرضية” وأضاف “قد لا تحقق أنقرة السيطرة على ثلاث مناطق، لكنها لن تخرج صفر اليدين بما يضمن لنا الإيفاء بوعدها إما كاملة أو بجزء كبير منها”.
العامل الداخلي
العامل الخارجي، توازيه أجواء داخلية متوترة، إذ تقترب أنقرة من موعد الانتخابات المزمعة في حزيران المقبل، وفي ظل هذه الأجواء قال المعراوي “لا تحبّذ أنقرة وصول جثامين قتلى أتراك الى بلدهم في هذا الوقت، كما أن الوضع الاقتصادي لا يحتمل الدخول بعملية عسكرية معروفة بدايتها وغير معروفة النهاية… كما أن خطط أنقرة بإعادة لاجئين سورين للشمال ستتعطل كلياً في ضوء التصعيد الذي سيحصل إلى جانب عدم نيل موافقات دولية”.
وأضاف المتحدث الذي يراقب التطورات عن كثب، “تسعى أنقرة لتفاهم مع روسيا، كما تسرب مؤخراً انعقاد اجتماع في مطار مدينة القامشلي بين مظلوم عبدي وقائد القوات الروسية في سوريا، قدم خلالها الجنرال الروسي خطة تتضمن انسحاب قوات قسد الى ما بعد 30 كم عن الحدود التركية وانتشار قوات من الفيلق الخامس الموالي لروسيا مكانها منعاً لحدوث حملة برية أو استمرار وتصعيد الحملة الجوية الجارية الآن، لكن عبدي رفض هذه المطالب”.
وحول رفع جاهزية فصائل المعارضة المدعومة تركيا، قال معراوي “لم يلاحظ أي استعدادات جدية على الأرض من جانب فصائل الجيش الوطني السوري حيث تم أخذ إجراء بسيط وهو رفع الجاهزية وهذا الإجراء ليس معناه أن ثمة عملية برية قريبة”.
”القدس العربي”