أشعر وأنا أكتب شيئا وأنشره على صفحتي بأنّ هناك من يعلّق ولا يقرأ. بات فعل القراءة متعبا في ثقافة يفعل أصحابها كلّ شيء بأنفسهم حتى إذا أرادوا الراحة مالوا إلى الصورة لأنّها تغنيهم عن أيّ سند معلوماتي آخر. المتعبون المثقلون بتفاصيل الحياة اليومية من العسير أن يأخذوا كتابا في جيوبهم، ويجلسوا في محطاتهم أو في مقاهيهم أو في حديقة عامّة كي يقرأوا ما تيسر من رواية عميقة. هم في قلق أبديّ بما ينتظرهم، أو بما لا ينتظرهم. فعل القراءة فعل رغبة ينبغي أن لا نطلبها ممّن لا رغبة لديه فيها. أنا لست ممّن يلوم الناس لأنّهم لا يطالعون أنا فقط أتفهمهم: من يقرأ له أسبابه الجاذبة، ومن لا يقرأ له أسبابه النابذة. لا أقارن أبناء جلدتي بمن أراهم في أوروبا ممن يستقلون القطارات وترافقهم الروايات.
حتى يكون لك ذهن يعالج القراءة بشكل جيّد عليك أن تُخْلِيَه من معالجات أشياء كثيرة أخرى عليك أن تعالجها. في قطاراتنا وفي حافلاتنا لا يوجد في ساعات الذروة مكان كي تضع ساقك غير بعيد عن جسد.. تضغطك بقية الأجساد حتى تعصرك تفكّر في جيبك هل تراه يسلم من النشل، وبعد هذا هل تراك تفكّر في القراءة والكتاب وغيرهما. غالبا ما كان فعل القراءة فعلا بورجوازيّا، لأنّ من يمارسه في الفضاءات العامّة وعن إرادة ينبغي أن يكون قد توفّرت له جميع أسباب المعيش الأخرى، فلا يمكن أن يجهد فكره فيها، وعلى النقيض من ذلك يمكن أن يمارس القراءة كلّ من رغب عن دنيا الناس ومال إلى عالم الكتب بقطع النظر عن وضعه الأصليّ، لذلك لا ألوم من يقرأ نافذتي على وسائل التواصل الاجتماعي رغم أن القراءة لا تكلف غير جهد تفكيك شيفرات الخط.
السرد البصريّ اسم يطلق على ضرب من السرد يستعيض بالصورة في الفضاء الإعلامي أو في وسائل التواصل الاجتماعي ليحكي حكاية بواسطة الصور من رسوم أو لوحات أو فيديوهات أو غيرها ليشهر بضاعة، أو ليعلن شيئا، وقد يكون الغرض غير سرديّ فلا حكي فيه. في المحتوى السردي البصري ترتّب العناصر وتنظم من أجل التواصل بين الناس. من الممكن أن تكون مادّة السرد البصري كتابا مصوّرا أو حكاية قصيرة مرسومة، أو سلسلة من الصور قد يصاحبها تعليق بالكلام بسيط. في هذا الضرب من السرد يمكن أن تجد من يقصّ عليك الحكاية، أو يخبرك عن شيء ويكون صوتا كصوت السارد، غير أنّه مرئيّ ومعلوم وحركته الصوتية والبصرية ظاهرة، ويمكن للمستمع ـ المشاهد للسرد البصريّ أن يرسم عنه انطباعا ما. يفرّ السرد البصريّ بالمتابع من تعب القراءة إلى الاسترخاء على ضفاف الصورة والرسم، ورسومات المعلومات Infographics هي رسوم تيسر تمثيل معلومات معقّدة، فيسهل مسحها وفهمها. هي أداة مهمّة تستعمل في البحث والشغل لتقديم المفاهيم والبيانات بطريقة أكثر جاذبية، فهي تجمع بين الصور والنصوص والرسوم البيانية والمخططات وحتى مقاطع الفيديو.
لم تنقطع الكتابة عن هذه التمثيلات التصويرية ولا يمكن أن تنقطع عنها، فمن العسير أن تتخلى رسوم المعلومات وأشكال السرد البصري عن الكتابة؛ صحيح أن حجمها سيتقلص لكنّ حضورها لا بدّ منه في كثير من القصص المصورة، أو في فيديوهات الألعاب.
يُنسى اليوم أن الكتابة كانت في بداياتها تصويرية، وما تزال كثير من حروف الأبجدية المعاصرة تحتفظ بشيء من ملامحها التصويرية الأولى فحرف الألفبائية الأول في الإنكليزية (A) ما يزال يحتفظ برسم رأس الثور الذي كان يحمله بشكل واضح الحرف Aleph وهو اسم أوّل حرف في الأبجدية الساميّة، الذي تستعمله الفينيقية والعبرية والآرامية والسريانية والعربية بأسماء متقاربة. في الهيروغليفية القديمة كان رأس الثور بارزا أكثر قبل أن يصار إلى تجريده في شكل خط مائل ثم استقام على الشكل الذي نراه عليه اليوم. لقد حُرّف الشكل كثيرا في العربية، إذ لا يمكن أن نرى أثر رأس الثور في الألف العربي، يمكن أن يلمح قليلا في صورة الهمزة، أمّا الألف بما هو خط عمودي مستقيم يرتكز عليه حرف الهمزة فلا علاقة له بالرسم الأصلي إلاّ إذا تخيلنا أن الألف هو خطّ قرني الثور في الألف الفينيقية وقد زحزح عن موضعه.
ميل الكتابة إلى التجريد والترميز هو الذي محا الأثر بين الحرف وأصله التصويري. الميل إلى تمثيل الحرف بشكل لا يراعي أصله هو الذي نقل الحرف من صورة تعتمد الخطوط في غرض الرسم إلى هندسة تعتمد الأشكال، ولا تعتمد المشابهة التي تقوم عليها الإيقونة.
ميل الكتابة إلى التجريد والترميز هو الذي محا الأثر بين الحرف وأصله التصويري. الميل إلى تمثيل الحرف بشكل لا يراعي أصله هو الذي نقل الحرف من صورة تعتمد الخطوط في غرض الرسم إلى هندسة تعتمد الأشكال، ولا تعتمد المشابهة التي تقوم عليها الإيقونة. حين يرسم الألف بصورة رأس ثور بقرنين فهذا يعني أن من يرسمه يراعي علاقة المشابهة بين العلامة (الألف) وما يمثلها وهو صورة البقرة مرجعيا. لكنّ الرمز هو ما جعل حرف الأبجدية الأول يقلب بعد أن كان مائلا حتى ينسى الأصل، وينقل إلى حالته الرمزية التي تتأسس فيها العلاقة بين الدال والمدلول، وتكون علاقة اعتباطية لا شبه فيها ولهذا رسم العرب الألف بالشكل الذي رسموه به.
لم يكن رأس الثور حين يرسم يعني حرفا، بل كان يعني فكرة فيها رأس الثور جزء من سلسلة أفكار، ولكنّه حين بات حرفا تخلى عن دوره في تصوير الفكرة بأقرب الأشكال إليها. لذلك صار الرمز الفكريّ رمزا لجزء من كلمة لا يقدّم بمفرده فكرة ولا جزء فكرة. علينا أن نفترض أن من كان يقدر على رسم الأفكار بهذه الحروف الفكرية، التي تدلّ على فكرة أو جزء فكرة، كان قادرا على رسم مطابق لما يراد له أن يرسمه وفي هذا قدرة على الرسم ليست في متناول الجميع، لذلك كان من يتقن الكتابة هو من يبدع الرسم فكان المحرومون منها أميّون في الرسم لا في التمثيل الاعتباطي للحروف مثلما نفعله اليوم.
لا شكّ في أن أقدم الرسوم التي في الكهوف كانت بوسائلها الأولى وبأسنادها الحائطية الحجرية سردا تصويريا بدائيّا تقول بالرسم ما تقوله الكتابة بالرمز اليوم. غير أن هذه الرسوم الكتابيّة هي رسوم مختزلة من الرسوم الأصلية المشهدية، التي يكون فيها الخطّ وحدة للرسم ولم يكن وحدة لرسم مسخر للكتابة. لماذا يحتاج الكاتب أن يرسم بشكل خطاطي ويحتاج الرسام أن يكتب لوحته بشكل تمثيلي عيني؟ هل كان الكاتب على وعي بالفرق بين رسوم الخط ورسوم التصوير؟ يبدو أن الفرق لم يكن واضحا في الرسومات التي وصلتنا والتي أنتجها رسّامون لا يختصرون الأشكال، ولم يكن واضحا في الرسوم التي أنتجها كتاب لا يفصّلون الأشكال، بل يرومون إلى رسمها بشكل جزئيّ. إنّه ضرب من المجاز الذي تكون العلاقة فيه جزئية: إذ يرسم الجزء ويراد الكلّ. غير أنّك ولقدرة فيك عرفانيّة يمكن أن تفهم من رأس الثور أن المعني كامل الثور، بل تفهم منها البقرة، وأنّها مسند إلى مسند إليه غائب. دخل المجاز البلاغة من طريق الرسم التصويري أيضا فبدلا من أن ترسم بالكلمة اسم السفينة، يمكن أن تحيل على اسم الشراع الذي فيها ليس ذلك اقتصادا في الرسم، بل هو إرهاق للذهن حين يبحث في العلاقة بين جزء السفينة والسفينة كلها. التشبيه هو أيضا شكل من أشكال التصوير القديم والرمزي، إذ يعتمد في الأساس عناصر الطبيعة فيكفي أن ترسم بالشعر بدرا وتنسبه إلى الحسناء التي تتغزل بها حتى يصير القمر رمزا لمن تحب ولجمالها. على الرغم من أن التشبيه اسمه كذلك إلاّ أن أجدر الأسماء به أن يسمّى رمزا لا تشبيها لأنّه لا علاقة بين البدر والجميلة والبحر والكريم، وغير ذلك من عناصر التشبيه الكثيرة، فالعلاقة بين جمال وجهها وجمال البدر اعتباطية يراد لاعتباطيتها أن تكون مبررة بالقياس.
أستاذ اللسانيّات في الجامعة التونسية
“القدس العربي”