لدى كل من الرسام الإنكليزي وليم تيرنر، والرسام الفرنسي كلود مونيه، وفي مجموعة من أجمل لوحاتهما، يَظهر أثر ضباب لندن وانطباعاته، كعنصر فني ساحر وغامض، يغلف المنظر المصور بأغلفة الخيال، ويضفي عليه لمسات دراماتيكية لا تخلو من الحزن والرهبة، وتنبه عين الرائي لتكون أكثر حدة، عند مطالعة ما يختبئ من تفاصيل خلف هذا الضباب.
سبق وليم تيرنر نظيره الفرنسي كلود مونيه إلى هذا الوجود، وإلى الرسم وفن التصوير أيضاً، ولا يخفى تأثر مونيه بتيرنر في الأسلوب الفني عموماً، لا في رسومات لندن وضبابها فقط. فرغم إن كلود مونيه يعد رب أرباب المدرسة الانطباعية، أو الحركة التأثيرية أو التأثُرية، وإن اسمها أتى في الأصل من إحدى لوحاته، التي تحمل عنوان «انطباع ـ شروق الشمس» أو «تأثير ـ شروق الشمس».
إلا أن وليم تيرنر الذي عاش في الفترة من سنة 1775 إلى سنة 1851، وعاصر الحقبة الرومانتيكية، ويؤرخ له كفنان رومانتيكي، كان في أسلوبه الفني، خصوصاً في مراحله المتأخرة، بعض الملامح المبكرة للانطباعية، والإشارات الأولى لقدوم هذه الحركة، التي تمردت على القيود الأكاديمية وتحررت منها، وخرجت بفن التصوير من قاعات المراسم المغلقة، إلى النور والهواء الطلق والآفاق الرحبة، حيث يشتبك الفنان مع الطبيعة، اشتباكاً حسياً مباشراً، ويطلق العنان لشعوره، ليتلقى تأثيرات هذه الطبيعة عليه، ويحتفظ بفنه في منطقة الإحساس، ويركز على وجوده فيها أكثر من منطقة العقل.
وكان تيرنر من أوائل من فعلوا هذا، رغم إنه كان أكاديمياً، درس في الأكاديمية الملكية للفنون، ثم صار عضواً من أعضائها. ومن بعده جاء الفنان الفرنسي كلود مونيه 1840 – 1926، الذي يعد من أشهر الرسامين وأجملهم أسلوباً، ليؤسس الحركة الانطباعية، ويزور لندن، ويرى لوحات سلفه العظيم تيرنر، ويعجب بها أشد الإعجاب، لاسيما لوحات الضباب. ولكي يرى كذلك الأماكن اللندنية التي كان يرسمها تيرنر، فيجلس مونيه أمامها، ويتأملها ويغرق في تفاصيلها، لا ليرسمها مرة واحدة فقط، بل ليفعل ذلك عشرات المرات، ويعيد رسم المنظر الواحد أكثر من مرة، كما لو أن هذه الأماكن، وهذا الضباب وتأثيرات الجو اللندني، كانت تمنحه أفكاراً لانهائية، وأن كل لحظة كان لها تأثيرها الخاص، الذي يغير الرؤية تماماً. وقد أبدع مونيه سلاسل من اللوحات اللندنية، وبلغ به الحال أن رسم لمنظر واحد أكثر من أربعين لوحة. وكلود مونيه هو بيتهوفن الرسم كما يقال، لأنه كان يرسم بعض لوحاته المتأخرة، وهو على وشك أن يفقد بصره، ولم يكن بمقدوره أن يرى ألواناً محددة أثناء الرسم، كما كان بيتهوفن يؤلف سيمفونيته التاسعة وهو لا يستطيع أن يسمع الأنغام.
يعد وليم تيرنر من أعظم رسامي الإنكليز، ومن أهم مصوري الضباب في لندن، وعنه قال الكاتب الإيرلندي أوسكار وايلد: «قبل تيرنر، لم يكن هناك ضباب في لندن». عاش تيرنر وحيداً، وترك مجموعة هائلة من اللوحات يقدرها البعض بالآلاف، وأموالاً طائلة، أوصى أن تؤول إلى الدولة، لكي تعتني بلوحاته، وتُسخر المال من أجل رعاية الفن والفنانين. أما موهبته فقد بزغت منذ سنوات طفولته المبكرة، وفي بداية شبابه، وقبل أن يودع عهد صباه، كان فناناً محترفاً، يلقى الاعتراف والتقدير، وتوضع لوحاته في المتاحف والأكاديميات وصالات العرض المهمة.
والحق أن كل ما هو متاح من لوحات تيرنر، جدير بالاهتمام وإعادة الاكتشاف، فإلى جانب لندن والضباب، هناك الكثير من الثيمات الأخرى، أو المراحل الأخرى، التي تنفتح على جوانب ثقافية وحضارية مثيرة. كما ترك تيرنر لوحة نراه من خلالها، أو ذلك البورتريه الذاتي الذي رسمه لنفسه سنة 1799، وفيه يبدو أنيقاً مهندماً، على عكس ما يُنقل عن أنه كان يفضل العيش في أجواء معدمة، رغم ثرائه وماله الكثير.
كان تيرنر ابناً لأب يعمل حلاقاً، وكان صالون الحلاقة هو المعرض الأول للوحات هذا الفنان العظيم، فقد كان الأب يضع لوحات الطفل الصغير الموهوب، لكي يراها الزبائن والمارة، ويشتريها من لا يستطيع أن يقاوم إعجابه بها. وكان فخوراً بابنه وحريصاً على أن ينال أفضل تعليم ممكن، وبالفعل تلقى تيرنر دروسه الفنية، على يد أكبر الأسماء من الأساتذة في زمنه. ويوصف تيرنر بالانطوائية وعدم الميل إلى التعامل مع البشر بشكل كبير، أو رسمهم في لوحاته. وقد خلق هذا الفنان صلة عميقة مع الطبيعة في بلده، وكان يرسم أحياناً أثناء وجوده في مركب فوق نهر التيمز. ويتميز بشاعريته البصرية ونزعته التأثُرية، التي تظهر من خلال تأملاته في لندن المختبئة وراء الضباب، كما لو أن صعوبة الرؤية كانت تدفعه إلى المزيد من التأمل العميق. ومن أجمل ما يراه المرء في أعماله، ذلك النور المحتبس، أو صراع النور مع الضباب، ودائماً ما يلمس الرائي شيئاً سحرياً في لوحات تيرنر، سواء المائية أو الزيتية، ربما يكمن في تدرجات النور المهمة جداً في أعماله، والتدرجات اللونية أيضاً، والظلال المبهمة، وإلغاء الخطوط وتمويهها، وهو ما يعد من أهم ملامح الحركة التأثرية.
ومن لوحات تيرنر التي يظهر فيها أثر الضباب، لوحة بعنوان «التيمز أعلى جسر ووترلو». رسمها الفنان سنة 1830، وهي من اللوحات غير المكتملة، لكنها على الرغم من ذلك لا ينقصها الجمال، وفيها يختلط الضباب مع الدخان، وتتدرج الألوان من الأسود إلى الرمادي والأبيض، وتبدو الحركة كأنها تتجه إلى قلب اللوحة، كمحاولة لصنع حركة دائرية، وتبدو الأمور أكثر عنفاً واصطخاباً في العمق، بينما تكون المساحة الأمامية هادئة إلى حد ما، تتضح فيها الرؤية، لتتجلى بعض الألوان الزيتية وتدرجاتها البنية والصفراء. وفي لوحة «المطر والبخار والسرعة» وهي من أشهر لوحات تيرنر، نلمح الضباب ضمن عناصر أخرى، للتعبير عن أفكار الفنان حول التغير الحضاري، والثورة الصناعية وإلى ما هنالك. رُسمت هذه اللوحة سنة 1844، وفيها قطار ينطلق من كتلة ضبابية، ولا تظهر سوى مقدمته أو عربته الأولى فقط.
وقد جعل تيرنر هذا القطار في مواجهة الرائي، يسير نحوه كالتغيير الذي لا يمكن إيقافه، والقطار لا يتوسط اللوحة، وإنما يوجد في الجزء الأيمن منها، وأول ما يراه المرء هو الغيوم والضباب، وعليه أن يمعن النظر ليكتشف عناصر اللوحة وتفاصيلها. وفي لوحة «حريق مجلسي العموم واللوردات» 1834، صنع تيرنر لقاءً مدهشاً بين الضباب والدخان والنيران، وتحتل الألوان الرمادية بتدرجاتها، المساحة الأكبر من اللوحة في جانبها الأيمن، أما النيران المشتعلة فنراها في الجانب الأيسر من اللوحة بلهيبها الذهبي، وانعكاسات ضوئها الباهر على الجزء الأمامي، حيث توجد المياه وبعض المراكب القليلة، وفي مقدمة اللوحة تظهر مجموعات بشرية تراقب الحريق، وهو ما يندر وجوده في لوحات تيرنر.
أما كلود مونيه الرسام البارع، الذي يبدو كما لو أنه كان يلتقط صوراً فوتوغرافية بعينيه، ثم يضيف إليها المزيد من الجمال والخيال والأفكار من إبداعه الخاص، فله الكثير من اللوحات اللندنية، التي رسمها خلال إقامته في لندن، حيث كان يجلس أمام الأماكن التي رسمها تيرنر من قبل، ليرسمها هو بأسلوب آخر في حقبة فنية مغايرة. وقد أسهب مونيه وأفاض في هذه الرسوم، فنجد سلاسل من اللوحات للمكان الواحد، مثل جسر ووترلو، الذي رسمه في أكثر من أربعين لوحة، واستطاع أن يصنع في كل واحدة منها تأثيراً مختلفاً، وأن تكون لكل لوحة جمالياتها الخاصة. وهناك لوحات تميزها عناوينها، وإضافة كلمات معينة إلى جسر ووترلو، كالشمس أو الشفق مثلاً، ولوحات أخرى لا تميزها عناوينها، ويميزها تاريخ رسمها. وكان الضباب حاضراً في سلسلة لوحات جسر ووترلو بطبيعة الحال، وتحديداً في لوحة «جسر ووترلو ـ تأثير الضباب»، التي رسمها مونيه سنة 1903. وهي من أجمل اللوحات التي تُظهر انطباعات الضباب على الجسر والمباني من خلفه، وعلى مياه النهر أيضاً.
وكذلك لوحة «التيمز أسفل جسر وستمنستر» وهي أكثر وضوحاً من ناحية الرؤية رغم وجود الضباب، وتحقق للرائي متعة الانتقال البصري بين الضباب في عمق اللوحة، وكثافته في الأعلى التي تخف تدريجياً عند نزوله إلى النهر، ولمسات فرشاة مونيه البديعة وتقطعاتها التي صنعت أثر المياه. وكذلك حظي جسر تشارينغ كروس بسلسلة من اللوحات، كانت من بينها لوحة بعنوان «جسر تشارينغ كروس ـ الضباب» 1902، وفيها تكاد تتلاشى الخطوط، وتهتز الرؤية وتتداخل، ويسرح الخيال في تداخلات الضباب مع قدرات مونيه اللونية المدهشة.
كاتبة مصرية