لا يختلف اثنان في أن نشوء فلسفة الموت وتنامي نزعة التشاؤم جاءا بعد تفاقم المسارات السوداوية في أوروبا، مع بدايات القرن العشرين، التي اتسعت نتائجها لتشمل العالم بأسره من الشمال إلى الجنوب، ومن الغرب إلى الشرق. فكان حافز تجاوز الدين بمثابة غاية حتمية للتخلص من المرجعية الوهمية المعرقلة لمسار الوعي الإنساني، والمكبلة لإرادته وحريته. حصل ذلك من قبل خلال الثورة الفرنسية في 1789، التي قادها مفكرون نورانيون مثل فولتير وروسو ومونتسكيو.
كما شكلت مراحل الضعف البشري والنكسات المتتالية الناتجة عن الاقتتال الوحشي، وتزايد المطامع البشرية، عوامل رئيسية لتفاقم الأزمات في العصر الحديث، فاتجهت بوصلة العالم إلى نفق مظلم، مسدود سببته عوامل مختلفة، منها: الحربان الكونيتان، الفاشية، النازية، التصنيف العرقي، التفاوت الطبقي، التقسيم الاجتماعي، وهي بمثابة عناصر قاتلة وصادمة للحقيقة والتاريخ في رأي الفيلسوف الألماني فريديريك نيتشه، صاحب المقولة الشهيرة: «صنعنا الفن حتى لا تقتلنا الحقيقة». من هنا استمدت بعض القراءات البصرية الراديكالية المغلفة بالتشاؤم والرفض، خاصة مع تيارات زائلة تتبنى الواقعية المفرطة التي ميزت بدايات الفن المعاصر، في ستينيات القرن الماضي منها حركة «الفليكسيس» (Fluxus) الدادائية الجديدة ( le Néo Dada) و»الحركة الفيينية» (l’Actionnisme Viennois) التي ترجمها التناول الجمالي إلى «برفرمنس» ( Performance) أو أداء فرجوي استثنائي مثير ومريب، وهي مجموعة ترتيبات قربانية طقوسية «بشعة» لعدد من الفنانين النمساويين. من بينهم المثير للجدل هيرمان نيتشه (1938-2022) الذي يلقب لدى البعض بجزار الفن المعاصر، نتيجة ما قدمه من مسرحة طقوسية دموية غرائبية، تستعمل الجسد البشري والجسم الحيواني والأعضاء الجنسية والجوفية، كأدوات تعبير فنية مباشرة! بواسطة العراء والانتهاكات والفحش والتقزز والإفرازات والغثيان.
لتطرح بذلك وسائل جمالية مفجعة، تمر مباشرة إلى معالجة ألم الجسد عبر إيلام النفس والإبهار والحسرة والاحتفالات الماجنة بنهاية الفرد، سواء عبر الجنائز أو عبر الرفض الصارخ ومعارضة النمط السائد في المجتمعات البورجوازية الأوروبية، في تساؤل نوعي محير وملح عن حضور الجسد، وإعادة جديدة لطرح دوره التحرري دون تابوهات (tabou) على غرار الأعمال الدموية بعنوان «الحركة 69» و«الحركة 107»(سنة2001) وعبر أشكال العربدة والمجون والإيروتيكا (الشهوانية) بوسائل ورسائل جسدية عملية بحتة، تحضر فيها إشارات وثنية (الاحتفال بالدم، تقطيع الأعضاء الداخلية، تدنيس القضيب وتمريغه في القاذورات، الاغتسال والاحتفال بالبراز).
وهو ما يتضح بقوة في البرفرمنس الأقوى بعنوان: «الصلوات الكبرى» (1998). ومن الأعمال ما اتجه إلى قراءة مغرقة في التعبير، عبر التنكيل بدمى على شاكلة الزعيم النازي أدولف هتلر وإظهاره في هيئة كاهن يقوم بأداء الشعائر، وغير ذلك من التأويلات الساخطة الموجهة إلى الفترة النازية الدموية، وما سببته من انهيار وانقلاب على القيم والمبادئ، خاصة فضح دور القرار الرسمي النمساوي المسكوت عنه في تعزيز النازية الألمانية كمؤامرة على الأمة، باعتبار النمسا أول دولة تم ضمها للرايخ الثالث عام 1938 في ظرف وجيز.
يعتمد نشاط هذه الحركة على عنصر الدماء، حيث يتم رشها على مساحات واسعة مقابل استعمال كمية محدودة جدا من الألوان، بحيث يظل اللون الأحمر طاغيا، وهو لون الموت بامتياز، خاصة بعد إضافة العناصر السيروغرافية الملائمة، مثل الموسيقى الروحانية وقرع الطبول والنواقيس الكنسية والذبائح المعلقة، وتداول الضوء الساطع والخافت وعناصر الديكور الميثولوجية والممثلين المجندين بملابس الراهب، كما تعتمد الفكرة على إظهار بعض الأجسام المقيدة على الصليب بملابس بيضاء تتصل بسقيطة حيوانية مسلوخة ومفرغة من أعضائها الداخلية، في وضعيات منحنية مذلة والدماء تسيل منها. كما يشمل عدد من الفقرات على دهس أمعاء وعدد من الأعضاء الداخلية، بمصفحة وفركها باليد وخلطها بالإفرازات البشرية في وضعيات تطرح عديد التساؤلات حول مصير الإنسان بعد الأزمات المتعاقبة آنذاك.
للإشارة فإن تيار الحركة الفيينية الواقعي الجديد، اختصت به فيينا دون غيرها من المدن في شخص هيرمان نيتشه، وعدد من النظراء المعدودين الذين تركزت أغلب أعمالهم وتحركاتهم على الأراضي الألمانية، نظرا لدواعي قانونية حمائية وحقوقية، لأن البلاد النمساوية تفرض قيودا صارمة على نشاطات هذه الحركة ومثيلاتها، وقد تم سجن العديد منهم مرات متتالية ومنهم من انتحر نتيجة لصعوبة المسار الفني المعادي للدين في بلد ذي تقاليد كاثوليكية محافظة.
وعلى الرغم من أن هيرمان نيتشه المتوفي مؤخرا (أبريل/نيسان 2022) جامعي وصاحب تجارب أكاديمية محترمة، مكنته من التدريس كأستاذ محاضر في عدد من الجامعات الألمانية، خاصة في أوج نشاطه الفني الدعائي بين سنوات 1960 و2010، إلا أن عددا من الدول الأوروبية ما زالت تحظر أعماله الميدانية وتشكك في ممارساته كجزء من رسالة فنية ذات أهداف معتبرة، نظرا لارتباطه بعرض مواد فرجوية إباحية في منظرياته العجائبية. وكفنان ملتزم بمسار ونظرة مختلفة جدا، كان يرد على التهم معتبرا الدولة هي من تسوق البرامج الإباحية لتقييد الأفراد ومراقبتهم عن قرب. قمة الجرأة والشجاعة ذهبت بهيرمان إلى تلخيص جملة ما طرحه على الساحة الفنية منذ بداياته، بقوله: «كلما أصل الثمالة أتحسس طريق الإبداع». تصريح قد يزيد من تعقيد الموقف، ويطرح مزيدا من الشكوك، لاسيما أمام حالته البدنية والحركية المنعدمة تقريبا، أي أنه رهين الكرسي (عدم القدرة على الوقوف والتعويل رأسا على المساعدين والممثلين لإنجاز العروض -المسماة – الفنية.
كاتب تونسي