مددت رئاسة مجلس الوزراء بقرار جديد فترة تسديد رواتب وأجور العاملين في الشركات الصناعية " المتوقفة والمتعثرة " من أموال الخزينة العامة، حتى نهاية العام الحالي 2009 . في الوقت الذي كان فيه الموعد المحدد لإنهاء هذا التمويل نهاية الشهر الجاري تموز 2009 . ومن جديد تستنزف الحكومة الأموال العامة ( وهي أموال الشعب المتحصلة من دافعي الضرائب والرسوم ) ، لتصرف على قطاع الدولة الصناعي الذي أكله أزلامها ومحاسيبها لحماً ، ورموه عظماً مثل تركة ثقيلة على كاهل الشعب .
نشأ هذا القطاع بفعل إجراءات التأميم التي حصلت غير مرة خلال عقد الستينات من القرن المنصرم ، حيث تم تأميم عدد من الشركات الصناعية الخاصة في القطاعات النسيجية والهندسية والغذائية . بعضها شركات عائلية وأخرى تشاركية وثالثة مساهمة . وكانت جميعها شركات منتجة ورابحة ، وصل إنتاجها إلى عدد من الأسواق العربية والدولية .
أضيف إلى الشركات المؤممة شركات صناعية وإنشائية أنشأتها الدولة خلال عقدي السبعينات والثمانينات ، ليتطور القطاع العام الصناعي عمقاً واتساعاً ، ويحتل مكانة مرموقة وواعدة في الاقتصاد السوري . غير أن سنوات التسعينات وما تلاها ، أكلت الأخضر واليابس في هذا القطاع ، بعد تصاعد الارتدادات السياسية والاجتماعية والاقتصادية لنظام القمع والاستبداد القائم ، وتفاقم الفساد المنظم والمنفلت في إدارة هذا القطاع والجهات العديدة المشرفة عليه والمتدخلة في شؤونه ، والتي بلغت ( 16 ) جهة مختلفة العائدية ، تتراوح بين الأمني والحزبي والاقتصادي والنقابي والإداري . . . ، فصار في ظل هذه " الرعاية الاستثنائية " مصدراً للنهب وجمع الثروات بالنسبة لبعضهم ، ومعيناً للتكسب والارتزاق للبعض الآخر ، وتكية للتنفيع والاستزلام وصنع الولاءات بالنسبة لآخرين . وكانت الضحية على الدوام سمعة هذا القطاع وانتاجيته التي انحدرت إلى حد التردي ، وخزينة الدولة والمال العام الذي نهب بغير حساب . مما ساهم في إعادة توزيع الثروة الوطنية بشكل كيفي ووحشي وظالم ، خارج إطار أي محاسبة قانونية أو أخلاقية ، وبعيداً عن أي مراقبة أو تصويب من أي نوع .
خلال الفترة المنصرمة ، جرت محاولات عديدة للوقوف على حقيقة هذا القطاع وما يجري فيه ، والمآل الواقعي الذي ينتظر أن ينتهي إليه ، إلا أن جميع المحاولات انتهت إلى تقارير تأخذ مكانها فوق بعضها في ادراج وزارة الصناعة ورئاسة الحكومة والاتحاد العام لنقابات العمال ، ليستمر الحكم بالموت البطيء على هذا القطاع ساري المفعول . وكانت البيانات الفعلية لوضعه تحجب ، ليس فقط عن الرأي العام والجهات الرقابية الرسمية والمسؤولة ، بل عن بعض الجهات المعنية أيضاً . فلم يسمح لوزير التخطيط المرحوم عصام الزعيم بالاطلاع على الأرقام الحقيقية للقطاع العام عندما حاول ذلك تلبية لحاجات وزارته ومسؤولياتها .
في مراحل أخرى ، شكلت لجنة وزارية لتطوير القطاع العام الصناعي ، لم تعلن حتى الآن أي شيء عن مباحثها ومقترحاتها وقراراتها ، سوى أن الناتج العام الصناعي لقطاع الدولة يشكل 3% فقط من إجمالي الناتج الصناعي السوري ، وهي الحقيقة المرة .
وها هي الحكومة الرشيدة تنعي إلى الشعب السوري القطاع العام الصناعي . ( رغم صوتها العالي في إبراز أهميته ، وإعلانها التمسك به والحرص على حمايته في كل مناسبة إعلامية أو دعائية ) فهو إما متوقف أو متعثر أو " حسبنا الله ونعم الوكيل " . ولمن يسأل عن الشركات الصناعية الرابحة ، يجيب المسؤول الاقتصادي " هل هي رابحة فعلاً إذا قيمت أصولها ورأسمالها بشكل حقيقي ؟ ! " .
إذن ، نحن أمام ركام من الأبنية والآلات والعرصات العقارية ، وكم هائل من العمالة الفائضة ( المتعطلة والمعطلة ) ، تستخدم لكل شيء إلا للإنتاج . وتقدم مايشبه العمل لقاء ما يشبه الأجر . ومخازين فارغة أو متخمة بمواد وسلع لا سوق لها ، يحتار المدبرون في تدبير أمرها . وفوق ذلك يحدثونك عن " القطاع العام " .
لقد وقعت البقرة وكثرت سكاكينها . والأيدي التي تحمل السكاكين اليوم هي نفسها التي نضحت الحليب من الضرع عندما كانت البقرة حلوباً . والذين يتباكون اليوم على مصيرها هم الذين ساهموا في صنع هذا المصير .
فلا يتجاهلن أحد مسؤولياته ، لأنه لا يستطيع أن يتنصل منها .
ولكل أولئك الذين يسوقون البقرة إلى المسلخ دون حساب ، ولهؤلاء الذين يذرفون دوع التماسيح الكاذبة عليها دون مبرر نقول : " يداك أوكتا ، وفوك نفخ " .
وتبقى الضحية في الحالتين اقتصاد البلاد ومقدرات شعبها .
25 / 7 / 2009
هيئة التحرير