المستقبل –
صدر حديثاً عن المنظمة العربية للترجمة كتاب: "بمَ يفكر الأدب: تطبيقات في الفلسفة الأدبية" تأليف بيار ماشيري، ترجمة الدكتور جوزيف شريم.
"… إذا كان الأدب لا "يفكّر" كما تفكّر الفلسفة، ولا يحتمل وجود أفكار فلسفية جاهزة تضاف إليه وتُنتزع منه، لأنها تكون بمثابة خلايا ميتة في جسد حي، وإذا لم يكن فناً لغوياً صرفاً ولا شكلاً خالياً من مضمون، فإن الأدب وهو يُنتج أشكالاً وصوراً وأنماطاً تعبيرية وصفية وسردية وحوارية، يُنتج في الآن ذاته "أفكاراً" ويطلق "رسائل"، ولكنها ليست أفكاراً مجردة كما هي المفاهيم الفلسفية، وليست رسائل مباشرة، كما هي الرسائل في التوجيهات الأخلاقية والمبادئ التعليمية، وكونها كذلك لا ينتقص من قيمتها كتجارب فكرية، بل يُكسبها صفة خاصة ويمنحها بُعداً آخر. إنها نسيج ضمن نسيج متشابك الخيوط كثير التشعب، متعدّد الألوان، على الباحث أن يُحسن تمييزها وملاحقة تعرجاتها والتفافاتها من دون أن ينقلها الى نطاق آخر، ومن دون أن يجردها من طبيعتها الأدبية…".
هنا مقدمة المترجم د. جوزف شريم.
إنها من خلال العنوان الرئيسي دراسة للفكر الكامن في الأدب، ومن خلال العنوان الفرعي محاولة في الفلسفة الأدبية وطبيعة العلاقة بين الأدب والفلسفة.
قد يتبادر الى الذهن أن المقصود بذلك أن الأدب يتضمن أفكاراً فلسفية يمكن استخراجها من النسيج الأدبي ودراستها دراسة مستقلة، وأن الفلسفة تتضمن عناصر أدبية يمكن أن تُدرَس علاقتها بالمضمون الفلسفي بحصر المعنى، كما تُدرس خصائصها على ضوء أحد المناهج الفلسفية. ولكن هذه نظرة سطحية تبسيطية تسيء في آن واحد الى الأدب والفلسفة، وهي، بطبيعة الحال ليست أطروحة المؤلف، ذلك أن العلاقة بين الأدب والفلسفة أكثر تعقيداً والتباساً، فهما خلال فترة تاريخية طويلة لم يكونا منفصلَين.
مفهوم الأدب، كما نعرفه اليوم حديث العهد في أوروبا، إذ بدأ يتحدد في القرن الثامن عشر، ذلك أن الأصل اللاتيني للفظة (Littera) يدلّ على النصوص التي تُكتب لتُحفظ، أياً تكن مواضيعها، وظل هذا المعنى سائداً حتى أواخر القرن السابع عشر.
كتاب مدام دو ستايل: De La littérature considérée dans ses rapports avec les institutions sociales الصادر سنة 1800، كان محطة رئيسية في تكوّن المعنى الحديث للأدب، وموقف الفيلسوف الألماني "كَنْت" قبل هذه الفترة بقليل كان حاسماً في تكريس هذا الفصل بين مجال الفن (ومن ضمنه الأدب) ومجال العلم، ذلك من خلال مذهبه النقدي الراديكالي. يقول في نقد ملكة الحكم: "لا يوجد علم جميل، بل فنون جميلة… إن علماً يصبو الى أن يكون جميلاً لا معنى له. لأننا إذا سألناه، كعلم، عن المبادئ والبراهين، لن نحصل منه إلاّ على كلام جميل". ذلك أن العلم يبحث عن الأسباب والعلل ويعتمد على التجربة والبراهين العقلية، والفلسفة تبحث عن العلل الأخيرة لقضايا الحياة والوجود على ضوء العقل والمناهج الفكرية وهي وثيقة الصلة بالعلوم المحضة والعلوم الإنسانية على اختلافها، حتى ليمكن القول إن "العنصر الأدبي"، إذا ما داخلها يشكّل في نظامها نقاط ضعف، وإن أصالة التفكير الفلسفي يتحدد في مدى بعده عن الأسلوب الأدبي، والتزامه بالمناهج الفكرية الصارمة، وتاريخ الفلسفة زاخر بالفلاسفة ـ العلماء أو العلماء ـ الفلاسفة.
ولكن هذا الفصل نتاج تاريخي عائد الى مفهوم محدد للأدب، في فترة زمنية معيّنة، ومفهوم محدّد للفلسفة أكثر مما هو حاصل في طبيعة كل منهما، فهو لم يكن قائماً في الفكر اليوناني القديم مثلاً، ولم يعد قائماً في الفترة الحديثة والمعاصرة، حيث تتداخل الفلسفة بالأدب، وحيث يتضمن الأدب فكراً فلسفياً وتعالَج قضايا فلسفية بأسلوب أدبي، كما زالت الحدود بين الأنواع الأدبية وبين فنون النثر وفنون الشعر، فمفهوم الأدب، في الفكر النقدي الحديث، طرأت عليه تحولات جوهرية، وتعريفه قضية مطروحة بشكل دائم ومجال مفتوح لا يبدو أنه قابل للانغلاق قريباً، يطرحه الأدباء كما يطرحه الفلاسفة والنقاد، من سارتر الى بلانشو ورولان بارت، على سبيل المثال، فاعتبار الأدب "فناً من فنون اللغة"، ليس تعريفاً، لأنه ليس كذلك فحسب، وليس هذا سوى وجه من وجوهه، كما أن اعتباره لقاء بين الفن التعبيري والخطاب الأيديولوجي، وجه آخر وليس الوجه الوحيد. والأدب مهما تجرّد فناً يبقى تعبيراً عن "أفكار"، ولكنها متجسدة في مواقف وفي وجود إنساني، وهو شديد الارتباط، عن وعي أو غير وعي بالقيم الأخلاقية والإنسانية وبقضايا المجتمع تأثراً وتأثيراً… وكل ذلك يزيد من تعقيدات العلاقة بين الأدب والفلسفة.
هل تعني "الفلسفة الأدبية" إذاً "استخراج" العنصر الفكري من الآثار الأدبية، عزل المفاهيم والقضايا الفلسفية عن "المادة الأدبية"، عن فن السرد مثلاً وفن الأسلوب، ودراستها دراسة مستقلة، وهكذا يتم الجواب عن السؤال الذي يطرحه الكتاب: بمَ يفكر الأدب؟ إذا أمكن ذلك، أي عزل العنصر الفكري عن "المادة الأدبية"، فهذا يعني أن الفكر طارئ عليها وأن وجوده عرضي وليس عنصراً مكوّناً من عناصره الجوهرية، وهو بالتالي ليس أدباً بالمعنى الصحيح، وهذا "المضمون" الفكري المستخرج لا ينتمي انتماء أصيلاً الى الفلسفة لأنه لا يستوفي متطلبات المنهج الفلسفي.
أخيراً، هل تعني الفلسفة الأدبية إخضاع النصوص التي اصطُلح على تسميتها أدبية للدراسة على ضوء أحد المناهج الفلسفية؟
عرف تاريخ الأدب والنقد الكثير من الدراسات التي تستوحي مناهج العلوم الإنسانية كعلم النفس وعلم الاجتماع… ولعل أحدثها تلك التي تعتمد العلوم اللسانية وأشهرها المنهج البنيويّ، وهي في نظر المؤلف قاصرة لا تحيط بالموضوع ولا ترى منه سوى جانب واحد ولا تؤدي النتائج التي تُرتجي منها. ذلك أن النص الأدبي ليس نظاماً مكتملاً، مكتفياً بعناصره وأدواته، بحيث يؤلف بنية مغلقة، بل هو طاقة متجددة، لا يوجد إلا في تفجره وانفتاحه على تعدد في المعاني والدلايات والايحاءات، فهو يتوالد باستمرار، ولكونه كذلك لا يتضمن أجوبة جاهزة عن أسئلة مطروحة مسبقاً، فتأتي النظريات الأدبية لتكشف عن هذه الاجوبة بشكل واضح ونهائي. النص الأدبي هو هذا النوع من الكتابة الذي يحتمل عدداً غير محدد من القراءات التي تكشف عدداً غير محدد من الايحاءات، وهو إذا وهب دلالته "الحقيقية" من خلال أي من المناهج فهو نتاج ميت.
لا ينف المؤلف أياً من المناهج التي سبق ذكرها، ولكنه يعتبرها غير كافية، وهي كلما ادعت التوصل الى نتائج نهائية تتهافت وتظهر عجزها كلما اقتصرت معالجتها على زاوية واحدة. الفلسفة الأدبية منهج آخر في "قراءة" الأدب، يقترحه المؤلف، وهو لا يلغي سواه، بل يرى أنه يكشف جوانب مهمة وأساسية في النتاج الأدبي.
فإذا كان الأدب لا "يفكر" كما تفكر الفلسفة، ولا يحتمل وجود أفكار فلسفية جاهزة تضاف اليه وتنتزع منه، لأنها تكون بمثابة خلايا ميتة في جسد حي، وإذا لم يكن فناً لغوياً صرفاً ولا شكلاً خالياً من مضمون، فإن الأدب وهو ينتج أشكالاً وصوراً وأنماطاً تعبيرية وصفية وسردية وحوارية، ينتج في الآن ذاته "أفكاراً" ويطلق "رسائل"، ولكنها ليست أفكاراً مجردة كما هي المفاهيم الفلسفية، وليست رسائل مباشرة، كما هي الرسائل في التوجيهات الأخلاقية والمبادئ التعليمية، وكونها كذلك لا ينتقص من قيمتها كتجارب فكرية، بل يكسبها صفة خاصة ويمنحها بعداً آخر. إنها نسيج ضمن نسيج متشابك الخيوط كثير التشعب، متعدد الألوان، على الباحث أن يحسن تمييزها وملاحقة تعرجاتها والتفافاتها من دون أن ينقلها الى نطاق آخر، ومن دون أن يجردها من طبيعتها الأدبية.
هذا هو مفهوم المؤلف للفلسفة الأدبية، وهذا ما حاول تطبيقه على النماذج الأدبية التي اختارها، ففي رأيه أن الأدب، من دون أن يخرج من "أدبيته"، بل وهو متجذر فيها يمكن أن يوجه رسائل للفلسفة هي بحاجة اليها، أكثر من حاجة الأدب الى أفكار فلسفية، فالمنحى الذي يتخذه في بحثه ينطلق من الأدب ليبلغ الفلسفة وليس العكس كما درجت العادة.
وهنا نتساءل: ما الذي تجنيه الفلسفة في هذه الحركة المعاكسة؟ وكيف تتحقق هذه الفائدة في النهج الفلسفي؟
رأينا أن النص الأدبي ليس بنية مغلقة وليس شكلاً فنياً فحسب، بل هو شبكة من "أشكال معرفية" ولكنها ليست معطاة مباشرة، بل يجب أن تنتزع من النص، والنص بدوره ليس له وجود ثابت ونهائي، فهو لا يتحقق بالفعل إلا في علاقاته مع نصوص أخرى وفي توالده المستمر عبر "قراءات" متعددة، إذ إن القراءة فعل إبداعي، به يحافظ النص على إبداعيته، في هذه التعددة تسقط الحتمية كما تسقط الموضوعية المطلقة والحقيقة الواحدة الثابتة، وفي ذلك دروس تقدم لبعض المذاهب والمناهج الفلسفية المتشددة في نزعتها اليقينية، والمبالغة في تفاؤلها بالتوصل الى حقائق نهائية. هكذا يحمل الأدب الفلسفة على وعي حدودها وإدراك نسبية المعرفة والاعتراف بأن لا حقيقة مطلقة، بل حقائق نسبية، وذلك في موقف نقدي ذاتي هي بحاجة اليه، فإذا اعتادت الفلسفة خلال عصور أن تفكر انطلاقاً من معطياتها ومناهجها الخاصة، وأن تتكلم لغتها الخاصة، فإن الأدب يفتح لها منافذ جديدة ويقدم لها مواد جديدة لم تتعودها، ويحملها على النظر الى القضايا من زوايا مختلفة وبرؤيا جديدة، كما أنه يخفف من اطمئنانها ويخلصها من الكثير من أوهامها، ويخفف من جفافها وعبوسها، ويعيد الى الممارسة الفكرية شيئاً من "اللعب" الذي هو مظهر إبداعي يدخل الفكر في مناطق لم يألفها، ويبث في مذاهبه حركة حياة وتعدداً في الأصوات.
هكذا تبدو لنا النصوص الأدبية تحت أنوار هذا المنهج الجديد الدائم الحركة بين الأدب والفلسفة وبين النصوص الأدبية ذاتها، قارئاً الواحد منها على ضوء الآخر ومن خلاله، في تشابك موضوعاتها وتنوع إيقاعاتها، كأنها سيمفونية كاملة، ففلسفة التاريخ عند "هيغل" وشارحه كوجيف من خلال روايات كينو غير ما هي في ذاتها، وقصص كينو في استيحاءاتها الحرة والساخرة والعابثة أحياناً للهيغلية، غير ما هي في ذاتها… كما أن كلاً من الأدباء الذين تتناولهم الدراسة ينكشف له وجه جديد، فلوبير رائد الواقعية والداعي الى لا ذاتية الأدب، تنكشف عنده العلاقة المعقدة بين النزعتين المتناقضتين، كما تنكشف لا واقعيته، بل مثاليته، فهو الذي صور المشاهد الأكثر إثارة للتقزز، مشاهد الأقذار التي يغوص فيها الخنزير وهو يتلذذ فيها… هو ذاته يقول: "فوق الحياة، فوق السعادة، هناك شيء ما أزرق ومشع، سماء شاسعة ثابتة ولطيفة، الأشعة التي تصلنا منها تكفي لإحياء عوالم. تألق العبقرية ليس سوى انعكاس شاحب لهذه الكلمة المستترة". وهو الذي شبّه نفسه بالخنزير مراراً، وتمنى أن يكون مادة، تمنى كذلك أن يكون ملاكاً، فكأن الواقعية ليست سوى حجة أو قناع لمثالية جوهرية تبلغ ذروتها في جهد لتجريد العالم تجريداً كاملاً، وإذا بـ"فلوبير" يلتقي بمالارميه (Mallarmé) في بحثهما عن المطلق ومعاناتهما لتجربة العدم.
لا شك في أن المثقف العربي، وبنوع خاص الناقد الأدبي يجد في هذا الكتاب مادة خصبة، نظرية وتطبيقية ومنهجاً للقراءة فيه الكثير من الابتكار والجهد الشخصي يضاف الى المناهج النقدية المعروفة، فهو يفتح له آفاقاً واسعة.
تبقى أسئلة تطرح نفسها بشكل طبيعي: هل يصلح تطبيق هذا المنهج على جميع النصوص الأدبية؟ وكيف تختار النصوص التي تُقرأ هذه القراءة؟
إن جميع النصوص التي اختارها المؤلف تنتمي الى الفن القصصي، والى فترة زمنية محددة تمتد بين أواخر القرن الثامن عشر وأوائل القرن العشرين، فهل يطبق هذا المنهج على نصوص غير قصصية، شعرية أو مسرحية مثلاً وفي فترات تاريخية مختلفة؟ كتاب بيار ماشيري كان رائداً ومؤسساً، والدراسات التي تليه كفيلة بالجواب.
أما الترجمة العربية فقد حرصنا فيها على الأمانة والدقة الى أبعد الحدود، حتى إن النص العربي لا يعكس المضمون الفكري فحسب، بل حركة الأسلوب، كما حرصنا على ترجمة جميع الملاحظات ونصوص الاستشهادات، مضيفين في الهوامش بعض تعليقات وإيضاحات وشرح لتعابير ومفاهيم فلسفية تسهيلاً للقارئ.
كما أننا أشرنا في الهوامش الى عدد غير قليل من الأخطاء الطباعية وأخطاء السهو والتحريف في نصوص الاستشهادات وذلك بالرجوع الى أصولها ومختلف طبعاتها حرصاً على الدقة والأمانة ولاستقامة المعنى الذي ينعدم أو يُحرّف ويشوّه بهذه الأخطاء.
د. جوزيف شريم