أجرى وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو منتصف الشهر الماضي زيارة إلى واشنطن لعقد مباحثات مع المسؤولين الأميركيين حول عدد من القضايا الثنائية من بينها الوضع في سوريا. وبينما لم تؤد الزيارة إلى تقارب مُعلن في مواقف البلدين بخصوص وحدات حماية الشعب الكردية، إلا أنها أفسحت المجال أمامهما للبحث عن سبل تسوية محتملة في هذه القضية. في السنوات الأخيرة، كان الخلاف التركي الأميركي بشأن دعم الولايات المتحدة للوحدات الكردية عاملاً إضافياً موتراً للعلاقات وما يزال. لكنّه اليوم يأخذ بُعداً جديداً في ضوء الانعطافة التي أحدثتها تركيا تجاه النظام السوري وشروعها في حوار معه برعاية روسية لتحسين العلاقات. مع أن واشنطن أبدت معارضتها الواضحة لخطوات الانفتاح التركي على نظام الأسد، إلا أن الانعطافة التركية في سوريا هي نتيجة مباشرة للسياسة الأميركية التي تجاهلت المخاوف الأمنية لأنقرة من الحالة الكردية المسلحة على حدودها الجنوبية، ودفعتها إلى تحويل أولويتها في سوريا نحو مواجهة مشروع الحكم الذاتي الكردي على حدودها الجنوبية والدخول في شراكة مع روسيا وإيران ضمن منصّة أستانة، والتي عمقت من التناقضات بين الأهداف الجيوسياسية لأنقرة وواشنطن في الملف السوري.
تركيا لا تثق كثيراً بالوعود الأميركية التي قُدمت إليها في السنوات الماضية فإنه سيتعين على واشنطن تقديم التزامات واضحة هذه المرة بإبعاد الوحدات الكردية عن الحدود التركية بعمق ثلاثين كيلومتراً
كان العامل الأبرز الذي دفع تركيا إلى الانفتاح على الأسد هو اعتراض الولايات المتحدة على خططها لشن عملية عسكرية جديدة ضد الوحدات الكردية. بينما نجحت إدارتا أوباما وترامب السابقتان في إبرام تفاهمات مع أنقرة لإخراج الوحدات الكردية من بعض المناطق الحدودية مقابل تجنّب صراع عسكري واسع بين تركيا والوحدات، فإن إدارة الرئيس جو بايدن، لم تُبد حتى الآن استعدادا واضحا للعمل مع أنقرة لتلبية مطالبها المتمثلة بإخراج الوحدات الكردية من المناطق الحدودية بعمق ثلاثين كيلومتراً. كما أنها عملت على إعادة زخم الدعم الأميركي للوحدات مقارنة بما كان عليه خلال إدارة ترامب. في حين أن أنقرة فشلت خلال السنوات الماضية في إقناع واشنطن بالتخلي عن الوحدات، فإنها تُعول في الوقت الراهن على أن التحولات التي أحدثتها على سياستها في سوريا في الآونة الأخيرة إلى جانب الميزة الاستراتيجية الجديدة التي منحتها إياها الحرب الروسية الأوكرانية على علاقاتها بالولايات المتحدة تُساعدها في ممارسة مزيد من الضغط على إدارة بايدن للقبول بالعمل معها في سوريا بما يُلبي احتياجاتها الأمنية. بالنّظر إلى أن تركيا لا تثق كثيراً بالوعود الأميركية التي قُدمت إليها في السنوات الماضية فإنه سيتعين على واشنطن تقديم التزامات واضحة هذه المرة بإبعاد الوحدات الكردية عن الحدود التركية بعمق ثلاثين كيلومتراً. قد يبدو مثل هذا الطرح غير جذاب للولايات المتحدة كونه سيزيد من إضعاف تأثيرها في الملف السوري، إلا أنّه سيكون خيارا مفيدا إذا ما أرادت واشنطن ثني أنقرة عن الانخراط بشكل أعمق في الجهود الروسية لتهميش الدور الأميركي والغربي في عملية التسوية السياسية.
مع ذلك، من غير الواقعي الاعتقاد أن استجابة أميركية لبعض مطالب تركيا بخصوص الوحدات الكردية ستدفعها إلى التخلي عن مسار المصالحة مع النظام السوري، لكنّها ستجعلها أقل قابلية لتقديم تنازلات جوهرية لروسيا والنظام مقابل التعاون الأمني بينهما ضد الوحدات الكردية. دفع افتقار الولايات المتحدة إلى استراتيجية واضحة في سوريا بعض حلفاء واشنطن في المنطقة إلى إعادة علاقاتهم مع النظام دون النظر إلى عواقب الاعتراض الأميركي. لكن مصالحة محتملة بين أنقرة ودمشق سيكون لها آثار عميقة على الصراع السوري وستُضعف بشكل كبير الأوراق المتبقية لدى الولايات المتحدة للضغط على النظام وحلفائه للقبول بتسوية سياسية للصراع وفق المعايير المنصوص عليها في قرار مجلس الأمن الدولي 2254. على عكس الولايات المتحدة التي تحتفظ بنحو تسعمئة جندي في المناطق الخاضعة لسيطرة الوحدات الكردية في شرق الفرات، فإن تركيا لديها وجود عسكري كبير في الشمال السوري كما تدعم فصائل المعارضة المسلحة التي ترفض أي مصالحة مع نظام الأسد. رغم تضارب المصالح التركية والأميركية في مسألة الوحدات الكردية، إلا أن الوجود العسكري التركي لا يزال يُشكل مصلحة لواشنطن والغرب كورقة ضغط على النظام وروسيا وإيران للقبول بتسوية سياسية للصراع.
إذا قادت الواقعية إدارة بايدن إلى تبني مقاربة جديدة ومقبولة لتركيا في سوريا من منظور المصلحة في عدم إضعاف موقف أنقرة في شراكتها مع روسيا وتقليص حاجتها إلى تقديم تنازلات جوهرية لموسكو والنظام من أجل تلبية احتياجاتها الأمنية، فإن واشنطن ستكون قادرة على الحد من تداعيات التحولات الحالية في السياسة التركية على مصالحها بعيدة المدى في سوريا. مثل هذه المقاربة، ستتطلب أولا اقتناع إدارة بايدن بعدم جدوى البقاء على السياسة الحالية التي تعمل على مفاقمة التهديد الأمني لتركيا وتزيد من انجرافها نحو روسيا والنظام. مع الأخذ بعين الاعتبار تزايد التكاليف على الوجود العسكري الأميركي في شمال شرقي سوريا على أمن القوات الأميركية وعلى علاقة واشنطن بأنقرة، فإن الولايات المتحدة وتركيا ما تزالان قادرتين على العمل معاً في سوريا بما يُساعد واشنطن على الاحتفاظ بالتأثير المتبقي لها في سوريا دون المخاطرة بتوتر أكبر في علاقتها مع أنقرة. من غير المرجح أن يكون التخلي عن الوحدات الكردية بالمطلق خيارا أميركيا واردا، لكنه باستطاعة واشنطن الموازنة بين علاقتها بالوحدات وشراكتها مع تركيا عبر رعاية ترتيبات أمنية جديدة بين الجانبين.
لا يعمل ارتباط السياسة الأميركية في سوريا بالوحدات الكردية بشكلها الحالي على دفع تركيا إلى تبني سياسات تُضعف المصالح الأميركية البعيدة المدى في سوريا والمنطقة فحسب، بل يؤثر أيضاً على مجالات أخرى حيوية في العلاقة بين البلدين.
ستسعى إدارة بايدن إلى إقناع تركيا بالتخلي عن هذا الفيتو من خلال تسهيل عملية بيعها مقاتلات إف ستة عشر
يؤدي الفيتو التركي المستمر على انضمام فنلندا والسويد إلى حلف الناتو، والذي هو نتيجة أخرى لاختلاف المصالح التركية والغربية في الحالة الكردية المسلحة، إلى تقييد قدرة واشنطن على جعل حلف الناتو أكثر قوة وقدرة على التكيف مع التهديدات الأمنية التي طرأت على أمن ضفتي الأطلسي بعد الحرب الروسية الأوكرانية. ستسعى إدارة بايدن إلى إقناع تركيا بالتخلي عن هذا الفيتو من خلال تسهيل عملية بيعها مقاتلات إف ستة عشر. لكنّ هذا العرض لن يكون كافياً وحده للوصول إلى تعاون جديدة بين أنقرة وواشنطن في سوريا. سيشكل طرح عرض حقيقي على الطاولة بخصوص الوحدات الكردية حافزاً قوياً لأنقرة للنظر إلى شراكتها مع الولايات المتحدة على أنها ما تزال حيوية بقدر أكبر من تعميق شراكتها مع روسيا في سوريا. الوصول إلى هذه النتيجة المفيدة لأنقرة وواشنطن يفرض على إدارة بايدن التعامل بجدية أكبر مع الهواجس الأمنية التركية إزاء الوحدات الكردية والنظر إلى تركيا على أنّها حليف قوي ولا يزال بمقدوره لعب دور قوي في الضغط على روسيا والنظام السوري من أجل القبول بتسوية سياسية شاملة للصراع.
“تلفزيون سوريا”