رغم أنّ دانيال ريغ ارتَحل في العقد الأوّل من هذا القرن، وتحديدًا العام 2007 عن 78 عاماً، فإنّ ما نعثر عليه من معلوماتٍ حوله لا يكاد يكفي لإرشادنا إلى مسيرته العلميّة ولا إلى تفهّم الظّروف التي أحاطت بإنتاج أهم أعماله: مُعجَم “السّبيل” العربيّ- الفرنسيّ، الذي صار أشهر القواميس المُزدوجة بين أيدي الطُّلاب بالفضاء الفرانكفونيّ. فكلّ ما نعرف عن الرّجل أنه اشتغل أستاذًا للغة العربيّة في المدرسة العليا بباريس، طيلة ثمانينات القرن الماضي، وأنّه ترجم العَديد من نُصوص الأدب العربيّ القديم ومختاراتٍ من الرّواية الحديثة.
ففي نهاية سبعينات القرن المنصرم، اشتدّ وعي ريغ بأنّ المعاجم الثنائيّة (العربيّة-الفرنسيّة)، المُتداولة آنذاك، مثل قواميس كازيميرسكي ودوزي وبيلو، قد عفا عليها الزّمن وصارت تضمّ معانيَ مُتقادِمة، فلا تفيد إلاّ قليلاً في فَهم مُفردات الضادّ المعاصِرة. فارتأى، تَبعًا لذلك، إنشاءَ مُدوّنة جديدة تأخذ في الاعتبار ما ظهر في الصّحافة والأدب الحديث والخطابات السياسيّة والإداريّة من مُفردات مُستحدثة، فجَمعها ورتّبها حسب النسق الألفبائيّ العربيّ، مُتّبعًا مبدأ الاشتقاق إلى أفعالٍ وأسماء، تنحدر من الجذور الثلاثيّة والرّباعيّة. وقد ساعده في تحرير موادّ “السبيل” ثلةٌ من الباحثين العرب منهم د.فائزة القاسم و د.حاتم بن عثمان.
ومن المفارقات أنّ دانيال ريغ أسند إلى مُعجمه هذا اسمًا موغلاً في العَتاقة وهو “السبيل”، بمعنى: الطريق المؤدّي إلى امتلاك ناصية اللغة العربيّة المعاصرة، ومنذ صدوره، ظلّ يُطبع بانتظامٍ، بل وظهرت منه نسخٌ مُختصرة وانتشَرت ليَسُدّ آنذاك ثغرةً كبيرةً في المعاجم المزدوجة، التي بات لزامًا عليها أن تسجّل آلاف المفردات المُولّدة. وللتذكير، فإنّ آخرَ معجم مزدوج كبير هو معجم كازيمرسكي (1860) والذي يعجّ بمفردات عربيّة القرون الوسطى، إلى جانب قاموس ثلاثيّ اللغات، بإشراف ريجيس بلاشير والذي توقّف نشره عند الحرف السادس (1967)، والمُعجم العربي-الألماني لِهانس فير (1909-1981) الذي تَرجَمَه إلى الانكليزيّة ميلتون كوان (1907-1993)، وهو ما يعتبر نقصًا لافتًا لمِثل هذه الأدوات الضروريّة لجمهور عريضٍ.
وكانت جدّةُ “السبيل” تكمن في اعتماده بشكلٍ حصريٍّ على مُدوّنات الضّاد الحديثة التي انتقاها من نصوص الأدب والصّحافة ومُقرّرات التعليم في الوَطن العربيّ، حيث جَعلها المورد الرئيس الذي استقى منه المفردات والعبارات والتعالقات المسكوكة collocation، بحيث أقصى كلّ ما خرج عن الاستعمال أو كان حوشيًّا مهجورًا، فلم يضمّنه إلا الكلمات الجارية اليوم على الألسن في العربيّة، مُخفّفًا عَمَله هذا من أثقال الغريب والدّخيل والوَعر. ويتمثل وجه الجدّة الثاني في تقديم السّياقات التركيبيّة والتعبيريّة التي تتنزّل فيها المفردات حتى يطّلع القارئ على معانيها داخل المقام، وهو ما يضفي على منهج الشرح طابعَ الحيويّة ويظهر التنوّع الكبير للمَعاني.
وقد ألحق دانيال ريغ بمُعجمه هذا لائحةً بأسماء الدّول العربيّة وعواصمها، إلى جانب المنظّمات والهيئات العالميّة والموافقات بين التقاويم القمريّة والشمسيّة، حتى يكون أداةً طيّعةً بيد الطلاّب. كما خصّص ريغ قسمًا للمفردات الفرنسيّة في المعجم وجعل أمام كلّ مفردةٍ منها رقمًا يحيل على الجذر الثلاثي العربيّ المقابل، بحيث يمكن لمستشير المعجم، الذي ينطلق من الفرنسيّة، أن يجد التّرجمة بمجرد البحث عبر الرقم المقابل، وفي ذلك مراعاة لاحتياجات القارئ غير العربيّ، الذي يتوجّه إليه هذا العمل.
صدر المعجم العام 1983 ومنذ ذلك الحين تعاقبت طبعاتُهُ عديدةً مُكرَّرة، إلا أنّ ما يحزّ في النفس أنه لم يتّخذ أحد القرارَ الجريءَ بتحيين ما فيه وإضافة ما طرأ على الضّاد من المفردات والمعاني الحادثة رغم كثرتها الكثيرة ومَسيس حاجة القارئ إليها، كما أنه لم يُستغلَّ في تطعيم المعاجم العربيّة المهتمة بالعربيّة المعاصرة وبقي مجهودًا فرديًّا، انقضى بموت صاحبه.
إلا أنّ المُمارس لهذا القاموس يدرك مباشرةً أنّه أغفل العديدَ من الاستخدامات وأنّ بعض ما أقصاه واعتبره باليًا أو خارجًا من الاستعمال عاد من جديدٍ، عبر النافذة، إما بمعنًى مولّد أو بدلالاتٍ قديمة مُوسّعة، فالكلمات لا تموت إلى الأبد، بل تتقادم وقد يعاد إحياؤها. كما أنَّ التمييز بين العربيّة الكلاسيكيّة والمعاصرة صعبٌ للغاية في العديد من الحالات، فأين نصنّف مثلاً المُصطلحات الدينيّة الفقهيّة التي لا يزال لها حضور قويّ في التداول المعاصر. كما أنّ بعض الكلمات يحمل مَعنيَيْن وأكثر: قديمٌ وآخر حديثٌ، مثل لفظ “سيّارة” الدّال على “الجماعة من الناس التي تمشي” ويشير أيضا إلى “وسيلة النّقل المعروفة”. وفي تناقضٍ واضحٍ، نلاحظ أنّه أبقى على كلمات قديمة وغريبة مثل: غيداق وسادروان وسافيا وغيرها عشرات مما يؤكّد أنّ معيار الفصل بين السّجليْن غير متين البتّة.
ولم يحلَّ ريغ قضيّة تعدّد دلالات الجذر الواحد، مثل (ج. ر. م) الدّالة على “القطع” وعلى “الذنب”، فكان يَضَع مشتقّاتهما جميعًا تحت نفس الرقم والخانة، وهو ما يحيِّر المُطالِع والمستشير، ولاسيما من المُبتدئين، حين لا يجد أيّة صلةٍ منطقيّة بين الحَقْليْن الدلالِييْن. ومن ناحية ثانيةٍ، لا يبدو معيار اختيار التراكيب والعبارات واضحًا ولا مُقنعًا، فهو يضع لكل كلمة جملة من التعالقات غير مُبرَّرة. فعندما شرح فعل سأل (2429) كتب: “سَأل عن أخباره”، في حين أنها ليست عبارةً ثابتةً ويمكن تعويض “أخبار” بأيّ مفعول آخر مثل: أحوال وشؤون وقصّة وغيرها. وينطبق هذا المثل على مئاتٍ من التعابير الأخرى.
وحين نقرأ الشروح نتبيّن أنّ جلّها قد استُجْلبَ من الفرنسيّة، أي إنّ نقطة الانطلاق هي ما كان لدى ريغ من عبارات فرنسيّة سعى إلى البحث عن مقابلاتها العربيّة الحديثة، وهو ما جعل لغتَنا تطوّع إمكانيّاتها الذاتيّة من أجل التعبير عن تصاريف لغة موليار، وليس العكس.
ومع ذلك، يظلّ “السّبيل” الأداة التعليميّة الأكثر انتشارًا بين طلبة العربيّة من غير الناطقين بها في الفضاء الفرنكفونيّ، ويساعد حَجمُه المتوسّط وطريقة ترتيب الكلمات والمعاني فيه، فضلاً عن دقّتها وعصريّتها، على جعله مرجعًا رئيسًا لتعلم الضّاد واكتساب مفرداتها، خصوصًا بين جمهور الشباب، (فهو غير مُخصّص للأطفال)، مع أنّه يقتضي التمكّن من نظام الاشتقاق العربيّ حسب التّجرّد والزّيادة. فكلمة “مستشفى” مثلاً توجد في حرف الشين، وليس في حرف الميم أو السّين. والاشتقاق أقرب السّبل إلى معرفة كيمياء المعاني.
بطاقة:
ولد دانيال ريغ العام 1929 وتوفيّ يوم 13 شباط/فبراير2007 وقد ترك من الكتب “في تعليم العربية” (1977) “الإنسان الاستشراقي” (1988) “الصرف العربي” (1983)، فضلاً عن “مُختاراتٌ من الأدب والصّحافة العربيّة” (1985)، وهو ما يدلّ على نشاطٍ كبير طيلة العقديْن الأخيريْن من القرن الماضي في تدريس الضاد للناطقين بغيرها بفرنسا والعمل على نشرها عبر مناهج التربية الحديثة.
“المدن”