قبل وصول وزير الخارجية الأمريكية أنتوني بلينكن إلى مطار القاهرة، في طريقه إلى تل أبيب ورام الله، كان رئيسه جو بايدن قد اختار تأطير الجولة تحت لافتة مستمدة من أردأ تعبيرات الاستعمار القديم وصراع الحضارات على منوال صمويل هنتنغتون؛ فوصف مقتل مستوطنين إسرائيليين في محيط القدس المحتلة بأنه «هجوم على العالم المتحضر»، أي جمهور دولة الاحتلال الإسرائيلي؛ من جانب أبناء الشعب الفلسطيني الخاضعين لأبشع احتلال عرفه التاريخ، بوصفهم استطراداً: غير متحضرين، همج، وربما وحوش.
في قراءة أخرى لجولة بلينكن، وقبلها زميله مدير وكالة المخابرات المركزية وليام بيرنز، وزميله الثاني مستشار الأمن القومي جيك سوليفان؛ ثمة معايير ناظمة وضعها سيد البيت الأبيض لأيّ تحرّك دبلوماسي أو أمني أو عسكري يباشره رجال إدارته، سقفها الخطابي المباشر هو النظر إلى شعوب المنطقة، والفلسطينيين خاصة، من زوايا دنيا واطئة لا تُغفل التحقير الإنساني والثقافي أسوة بالسياسي؛ وسقفها الجيو – سياسي مبسّط أو حتى تبسيطي، لأنه يضع الانحياز الأعمى لدولة الاحتلال فوق كلّ، وأيّ، اعتبار.
وهذه الـ»أيّ»، التعميمية لأنّ جوهرها يفيد الإطلاق فعلياً، يمكن أن تشمل استذكار بعض «القِيَم» المشتركة، المفترَضة، بين الولايات المتحدة ودولة الاحتلال؛ وهي، ذاتها، التي تجعل بايدن يرفع المستوطن، المتشدد دينياً والعنصري سلوكاً وعقيدة وسليل أسوأ تقاليد الأبارتيد، إلى مصافّ «العالم المتحضر»، مقابل عوالم البرابرة الفلسطينيين. الاستذكار فقط، وليس حتى التذكير، فما بالك بالتنبيه والتوجيه والتوبيخ؛ إذْ كان بلينكن قد استذكر، فقط، مع رئيس وزراء الاحتلال بنيامين نتنياهو، بعض ضرورات «تأمين» إجماع كافٍ حول «إصلاحات» وشيكة تعتزم تكريسها الحكومة الإسرائيلية الأشدّ يمينية وفاشية وعنصرية وتشدداً في تاريخ الكيان، وسوف تتكفل بإحالة المحكمة العليا الإسرائيلية إلى واحدة من سلال مهملات الصهيونية المعاصرة.
وكما كانت الـ35 دقيقة التي شكّلت زمن اجتماع بايدن مع الرئيس الفلسطيني محمود عباس، الصيف الماضي، بمثابة تشديد على المعايير الناظمة إياها؛ فإنّ اجتماعات بلينكن، وقبله بيرنز، مع عباس سارت على المنوال ذاته، وفارقها الأوضح أنّ رُسُل البيت الأبيض أعادوا التشديد على خطة الجنرال الأمريكي مايكل فنزل الهادفة إلى إعادة بسط السيطرة الأمنية للسلطة الفلسطينية في جنين ونابلس، وأعادوا الضغط على عباس كي يوافق عليها وينخرط في تنفيذها. ولا مشكلة، في ناظر البيت الأبيض، إنْ كان الجنرال لم يلحظ في خطته أيّ إجراءات يُطالَب بها الاحتلال؛ ولا حرج، على أيّ صعيد دبلوماسي أو بروتوكولي أو حتى أخلاقي، أن يكون رئيس المخابرات الأردنية وأخوه في المهنة رئيس المخابرات المصرية شاهدَين على مشهد الضغط.
ولعلّ من الإنصاف الافتراض بأنّ الجنرال فنزل، شاغل الوظيفة الخلّبية المسماة منسّق الأمن بين دولة الاحتلال والسلطة الفلسطينية، والتي أعقبت وظيفة لا تقلّ خواء هي الممثل الأمريكي الخاصّ للمصالحة في أفغانستان؛ يدرك جيداً، أفضل من بلينكن وسوليفان إذا لم يبزّ بيرنز أو يتفوق عليه؛ أنّ السلطة الفلسطينية خاوية الوفاض بدورها، تعاني من الترهّل والعجز والشلل والفساد، ولا سلطة تُحسب لها على شبّان فلسطينيين يجترحون أنساق مقاومة مستحدثة خارج الحاويات المعتادة للتنظيمات والفصائل والسلطات.
وإذا جاز القول بأنّ مبعوثي البيت الأبيض إنما يتابعون الطَرْق في حديد بارد إزاء غالبية الملفات التي باتت رهن أيدي أولئك المقاومين الشبان، فالجائز استطراداً هو انتظار مراحل أخرى مقبلة من الأنساق ذاتها وقد تغذّت من، أو الأرجح أنها سوف تكون قد تبلورت بفعل، لهاث غالبية الإسرائيليين نحو خيارات أمثال إيتمار بن غفير وبتسليل سموترتش؛ حيث لن يكون في وسع الجنرال فنزل إلا طأطأة الرأس، والتثاؤب أغلب الظنّ، خلال اجتماعاته مع بربارا ليف مساعدة الخارجية الأمريكية لشؤون الشرق الأدنى، وهادي عمرو ممثّل الإدارة الخاصّ لدى سلطة عباس.
وهيهات أن يبدّلوا تبديلا!
“القدس العربي”