توجد لوحة «الصرخة» للرسام النرويجي إدفارد مونش، في قائمة اللوحات الأكثر شهرة والأغلى ثمناً في العالم، والأقوى تأثيراً في تاريخ الفن التشكيلي والفكر الإنساني بشكل عام. فقد بات ذلك الشخص المذعور غريب الهيئة، رمزاً لكثير من الآلام والمآسي، وصنوف المعاناة التي تلاحق الجنس البشري، وإن أبدعه صاحبه في إطار تعبيري خاص به انفعالاً بلحظة معينة. ويُعتبر إدفارد مونش من رواد المذهب التعبيري، وربما يكون الاسم الأهم بعد فينسنت فان غوخ في هذا الميدان، وتُعد لوحاته من أصفى وأوضح النماذج، التي يمكن من خلالها التعرف على سمات وملامح المدرسة التعبيرية، وتمييز أدق خصائصها. ولمونش الكثير من اللوحات المثيرة والرائعة والمشهورة أيضاً، لكن تظل لوحة الصرخة بشهرتها العارمة، هي أولى اللوحات التي تقترن باسمه، وأول ما يتم ذكره من أعماله، وتظل تحفز على المزيد من التعبير عن معاناة البشر وضعفهم، وما يخوضونه من مواجهات مع كل ما يهددهم، من أقدار وظواهر طبيعية، وحروب وأمراض، وأذى البشر للبشر. وهي لا تحرض على التعبير عن كل هذا من خلال الرسم فقط، وإنما من خلال الفنون الأخرى كالموسيقى والدراما، والشعر والرواية، وعلى أقل تقدير تجعل هذه اللوحة، الناظر إليها يفكر في معاناة البشر وإن لم يبدع شيئاً من وحيها، لأنها تواجهه بلحظة إنسانية تلامس أضعف أوتاره، وملامح عميقة مشتركة في تكوينها البدائي، أو في شكلها النهائي الذي سيصير إليه الجميع.
فوجه هذا الشخص المذعور أو رأسه، قام إدفارد مونش بتصويره على هيئة أقرب إلى الهيكل الأساسي للرأس، ربما قبل أن يكتمل شكله ويكتسي بقية ملامحه، وربما بعد موته وهو في طريقه إلى أن يتحول إلى جمجمة. جاء الشكل إذن في منطقة وسطى بين الوجه العادي والجمجمة، أو بين الحياة والموت، فهي ليست جمجمة بالوصف الكامل، لأنها تعطي بعض التعبيرات من خلال العينين والفم، وليست مجرد جمجمة ساكنة صماء. وعند الحديث عن لوحة الصرخة، يجب ألا ننسى أن هناك أكثر من نسخة، رسمها الفنان في سنوات متفاوتة، والنسخة التي يجري تناولها هنا، هي نسخة عام 1893 الموجودة في متحف أوسلو الوطني في النرويج. وهي النسخة ذاتها التي كتب عليها إدفارد مونش عبارة تفيد هذا المعني: إن المجنون وحده هو من يمكنه رسم مثل هذه اللوحة.
لم يكن إدفارد مونش مجنوناً فاقداً للعقل، لكنه عاش على حافة الجنون طوال حياته تقريباً، وظل شبح فقدان العقل يخايله ويطارده، وكان عليه أن يحيا مع هذا التهديد المستمر، وما يقاسيه من الألم النفسي، وضربات الانهيار القوية، التي كانت تذهب به إلى المصحات النفسية لبعض الوقت، من أجل التداوي والعلاج ومحاولة ترميم النفس المهشمة، وتحقيق بعض الاستقرار الذي يمكنه من مواصلة الحياة والإبداع.
وإدفارد مونش ابن من أبناء الألم في هذه الدنيا، تلقفته حوادث الأقدار مبكراً، وتوالت عليه بالحادث تلو الآخر، وبالأسى المتلاحق والمعاناة المستمرة، بدءاً من موت الأم وفقده لها وهو في الخامسة من عمره، ثم فقده للأخت الكبرى، التي كانت تعوضه شيئاً عما حُرم منه من عطف الأم وحنانها.
ثم أن يعيش مهدداً بالمرض الذي قضى على حياة كل منهما، وأن يعرف الخوف من الموت منذ صغره، سواء موته هو أو موت من يحبهم، ثم المرض النفسي وآلامه، وسوء العيش مع أب شديد القسوة، وشديد التدين أيضاً، بث في نفسه الخوف من الآخرة والعذاب والجحيم، وغرس في نفسه الإحساس الدائم بالذنب والوقوع في الخطيئة، واعتقاد أن كل ما يحدث من أمور سيئة هو عقاب إلهي، بالإضافة إلى العزلة شبه التامة التي عاش فيها مونش لفترات طويلة، حتى فنه لم يكن سبيلاً إلى السعادة، فلوحاته كانت تقابل بالرفض، وتستقبل معارضه بقرارات الإغلاق.
تضج اللوحة بالحركة، وتأخذ هذه الحركة شكلاً أفقياً في أعلى اللوحة وعمقها، بتموجات وتعرجات تبدأ من يسار اللوحة إلى يمينها، وعندما تصل إلى اليمين وتلتحم بالأزرق تبدأ حركة جديدة، كأن هذا الأزرق قد اندفع بقوة وبكمية كبيرة من ناحية الشمال، واصطدم باليمين ليسيل بشكل غير منتظم متبعاً حركته الخاصة.
لذلك تطغى على لوحات هذا الفنان، أجواء الكآبة والسوداوية، والموت والخوف والألم، وتأتي بعض هذه المفردات في عناوين رسومه، كلوحات «على فراش الموت» «الأم الميتة» «كآبة» «قلق» الحب والألم» «امرأة باكية» «بورتريه في الجحيم» وغيرها من اللوحات، التي تعبر بعمق عن هذه المواضيع والعناوين. عن لوحة الصرخة التي كان اسمها في البداية «صرخة الطبيعة» يقول إدفارد مونش إنه رسمها توثيقاً للحظة عاشها بالفعل، لكنه توثيق فني بطبيعة الحال، أتى بعد أن اختلط بالنفس وأسرارها الداخلية، وامتزج بالكثير من الأحاسيس والأفكار والهواجس. ويروي مونش أنه كان في يوم من الأيام، يسير مع صديقين وقت غروب الشمس، فوق أحد الجسور في أوسلو، وإذا بالسماء تتحول إلى لون أحمر مخيف، كما لو أنها صارت سماء من دم، ثم سمع صرخة هائلة أفزعته بشدة، لكن الصديقين لم يسمعا الصرخة التي سمعها هو، ولم يشعرا بالخوف الذي شعر به، وتركاه وأكملا المسير. رسم إدفارد مونش الصرخة، سواء كانت تلك الصرخة هي صرخة الطبيعة الغاضبة، أو صرخة الإنسان المفزوع المروع. وسواء كانت تلك الصرخة، صرخة حقيقية سمعها بالفعل، أو كانت صرخة داخلية آتية من أعماقه، وتردد صداها من حوله، أو كانت مجرد إلهام قوي، هاجمه ليرسم لوحة جديدة، وقد أتاه على هذا الشكل الصوتي المسموع.
قسّم مونش لوحته إلى الثلث والثلثين، وتحتل الطبيعة الجزء الأكبر من تكوين اللوحة، حيث توجد السماء الملونة بالأحمر وتدرجاته اللونية، في عمق اللوحة والجزء العلوي منها، وكذلك المياه الموجودة على يمين الجسر، وسور الجسر الخشبي الذي يفصل بين قسمي اللوحة. وفي الصدارة نرى الشخص المذعور، ومن خلفه يوجد الصديقان، يسيران في طريقهما نحو عمق اللوحة. وقد اعتمد الفنان على درجات اللون البني في تصوير الجسر الخشبي، وتداخلات اللون الأزرق مع اللون الأسود، بالإضافة إلى البقعة اللونية السوداء، التي تتوسط الجزء الأيمن من اللوحة تقريباً، وتدرجات الأسود الباهت الأقرب إلى الرمادي في أسفل اللوحة. كما يوجد بعض التموجات بجوار الأزرق، وتبدو هذه التموجات كنسخة باهتة من تدرجات اللون الأحمر. وقد صور مونش الصديقين في عمق اللوحة على هيئة بشرية عادية، أما الشخص المذعور في مقدمة اللوحة، فكل شيء فيه غير عادي، هيئته وملامحه وثيابه، فهو يرتدي ثوبا طويلا داكن اللون بلا أي تفاصيل تحدد شكله، ولون بشرته أقرب إلى لون عظام الجمجمة، والعينان على الرغم من وجودهما، وعدم وجود الفراغ المعتاد في الجمجمة، فإنهما على قدر كبير من الغرابة، وتحدقان بهلع وبانحراف قليل نحو اليسار، كأنهما تطالعان شيئاً ما بفزع، أو أنهما زاغتا بفعل الخوف مما يجري. أما الفم فهو مفتوح بتمدد رأسي نحو الأعلى، والوجنتان متقلصتان إلى الداخل، وتحيط بهما اليدان، في حركة تدل على الخوف وتعبر عن الشعور بالدهشة إلى حد الرعب، وعدم تصديق ما تراه العينان، وربما يكون الهدف من وضع اليدين على هذا النحو، هو صم الأذنين قدر المستطاع، لتفادي سماع الصرخة والهروب منها. ويلاحظ أن الحاجبين فوق العينين لا وجود لهما تقريباً، وأن فتحتي الأنف تدل على التشنج أيضاً. لتدرجات الأحمر أثر لوني يوحي بالاضطراب والخطورة، بينما يعبر الأزرق عن الكآبة وقتامة اللحظة، أما تلك البقعة اللونية السوداء في قلب الأزرق، فتبدو كأنها مركز الشر المكثف، والنبع المستمر القادر على توليد المزيد من الرعب.
تضج اللوحة بالحركة، وتأخذ هذه الحركة شكلاً أفقياً في أعلى اللوحة وعمقها، بتموجات وتعرجات تبدأ من يسار اللوحة إلى يمينها، وعندما تصل إلى اليمين وتلتحم بالأزرق تبدأ حركة جديدة، كأن هذا الأزرق قد اندفع بقوة وبكمية كبيرة من ناحية الشمال، واصطدم باليمين ليسيل بشكل غير منتظم متبعاً حركته الخاصة. فيضرب نحو الشمال مرة أخرى، ويندفع جزء منه نحو القسم الأمامي من اللوحة، بمحاذاة الجسر، مختلطاً بتدرجات لونية باهتة متعددة. يقع كل هذا خلف الشخص المذعور، بينما يبدو هذا الشخص كأنه يواجه رعباً آخر يقع أمامه، أو أنه مرعوب مما يحدث خلفه إلى درجة أنه لا يستطيع أن ينظر إليه. رسمت هذه اللوحة بألوان الزيت والباستيل، وهي تعبير عن صرخة في الأساس، أي تعبير عن صوت، وقد ساهمت الحركة وكل هذه التعرجات والارتجاجات عن الاضطراب الذي أحدثه هذا الصوت.
كاتبة مصرية
“القدس العربي”