بينما حطّ بشار الأسد في حلب في اليوم الخامس على حدوث الزلزال، كانت قد توالت الاتهامات الداخلية الموجَّهة إلى الرئيس رجب طيب أردوغان، وتدرّجت بدءاً من البطء الحكومي في الاستجابة للكارثة، مروراً بالحديث عن إهمال حكومي وتمييز بين المناطق المنكوبة، وصولاً إلى الشروع في فتح ملفات مقاولات ضخمة حصل عليها فيما سيق مقرَّبون من أردوغان، وتأذّت تلك المنشآت بالزلزال على نحو يشجّع الاتهام بسوء التنفيذ والفساد. حرفيّاً لا مجازاً، راح أردوغان يقبّل أيادي منكوبات أو منكوبين، مما لا يتوقف عند أتيكيت تقبيل الأيادي التركي التقليدي الدالّ على التواضع، فيتعدّاه إلى الاعتذار.
نشدد على أن لا مأثرة تُسجَّل لأردوغان بتقبيله أيادي منكوبين، في حين راح بشار يلتقط الصور ضاحكاً في مدينة حلب المنكوبة. فعَل أردوغان ما هو عادي جداً، بحكم مسؤولياته، وبحكم التهم الموجَّهة إليه، وأيضاً لأنه يقبِّل الأيادي وعينه على الانتخابات القريبة التي سيخوضها. بعبارة أخرى، حضر التسييس في تركيا سريعاً ببدء توجيه الاتهامات من مناوئين للرئيس، وإن تلكأ زعماء المعارضة في المساهمة مباشرة فيها بداعي اللباقة، وهم سيستدركون تأخرهم قريباً جداً. نضيف أن هذا بالضبط ما ينبغي فعله؛ المحاسبة بوصفها فعلاً ديموقراطياً.
في حلب المنكوبة مرتين، خاطب بشار رجال الإنقاذ بالقول: (في الأيام الماضية حققتم بطولات إضافية، هذه هي الصورة الحقيقية لبلدنا، فالأزمات في سوريا أظهرت حقيقة المواطن السوري الذي لا يتخلى عن بلده، وأنتم أصبحتم مقاتلين مثلكم مثل أي محارب في المعركة). كسوريين، نفهم استغلاله الكارثة لتمرير الخطاب إياه عن سوريين خونة تخلوا عن بلدهم، هم الذين ثاروا ضده، وكلامه عن الصورة الحقيقية الذي يُراد به القول أن العالم يروّج صورة مزيّفة عن حكمه. كل ذلك معتاد، ويهون أمام مخاطبته رجال الإنقاذ “الذين يستحقون أكبر دعم وتكريم” بأنهم صاروا مثل مقاتليه، وكأنه يمنحهم وساماً بتشبيههم بقواته التي أبادت السوريين وهجّرتهم وسطت على أملاكهم.
في تصريح تلفزيوني، خلال تنقله في حلب، هاجم بشار الغرب متهماً إياه بالتسييس مع انعدام الجانب الإنساني الآن وفي الماضي، مضيفاً أن الاستعمار منذ 600 عام يقوم على قتل وسرقة ونهب الشعوب. لن نخوض في أفعال الاستعمار الشرير والحكم “الوطني” الخلوق الوادع، ما يهمنا في هذا السياق التناغم الذي أظهره سوريون مع زعم الأسد تغليب الإنساني على السياسي، بدعوتهم أيضاً إلى تنحية السياسة بسبب الكارثة التي توحّد السوريين بعد انقسام عميق وعنيف.
هناك فئة طالبت بعدم التسييس انطلاقاً من نوايا طيبة حقاً، وما يعنينا هنا فئات أخرى طالبت به، من دون أن تُلزم نفسها به، أو لم تقصّر في تسييس الحجر. نعني بأولئك مَن طالبوا بعدم التسييس وأعينهم “ضمناً أو علناً” على جني المكاسب السياسية لصالح الأسد، ونقصد بتسييس الحجر تلك الأصوات التي صدرت بالتزامن لتقول أن الأبنية المنهارة بفعل الزلزال يعود زمن بنائها إلى ما بعد آذار 2011، أو إلى زمن “الأزمة” بتعبير يكاد يكون مضحكاً لوصف ما حدث في البلد خلال دزينة من السنوات.
في أنزه أحواله، يلقي تعبير زمن الأزمة بالمسؤولية على المجهول، بينما في أغلبها يلقي بالمسؤولية على الذين ثاروا وتسببوا بها. هكذا يُقال على نحو ملتوٍ أن الذين ثاروا على الأسد مسؤولون عن كافة العواقب التي ألمّت بالبلد منذ ذلك التاريخ، وصولاً إلى انهيار المباني فوق ساكنيها في الزلزال. في أنزه الأحوال أيضاً، ينساق البعض عن قلة دراية وراء أمثلة منتقاة لدعم الفكرة، ومن خارج حلب الأكثر تضرراً ضمن المناطق التي يسيطر عليها الأسد، حيث توضّح صور المباني المنهارة فيها أن بناءها يعود إلى تاريخ أبعد، وقسم كبير منها في أحياء نشأت أو توسعت بدءاً من فورة السبعينات.
وإذا جارينا هؤلاء في مزاعمهم، فالحديث هو عن ألوف المباني منذ 2011 في مناطق سيطرة الأسد، ويريدون القول أنها بُنيت على عجل بسبب النزوح إليها، وبلا رقابة لأن رئيسهم منشغل بـ”الأزمة” عن متابعة تفاصيل من نوع سلامة الأبنية. ينبغي علينا الاقتناع بذلك، بل عدم التفكير أصلاً لئلا ننتبه إلى أن سلطة المخابرات القادرة على إحصاء أنفاس السوريين، حتى في وقت “الأزمة”، ينبغي أن تكون قادرة على منع إنشاء تلك المباني بلا ترخيص، وقادرة على ترهيب المقاولين كي لا يغشّوا بالمواصفات. ثم ينبغي علينا التحلّي بحسن الظن، فلا نفكر إطلاقاً في الشراكة بين سلطة المخابرات والمقاولين.
لا نحاجج هنا لتسجيل نقاط سياسية، فنحن نعلم جيداً أن الأسد مدعوم حتى الآن بقوى لا تكترث بمقتل بضعة ألوف من السوريين في زلزال، وإلا كانت اكترثت بمقتل مئات الألوف بشبيحته وبقواته التي أهان رجال الإنقاذ بتشبيههم بها. وليست المحاججة بهدف إقناع موالين ومَن في حكْمهم بتغيير مواقفهم السياسية، لأن هناك مبررات أقوى من الزلزال لو شاؤوا تغييرها. الأمر يتعلق بحيوات مهدَّدة بالخطر بسبب تسويق دعاوى سياسية غايتها تبرئة الأسد تحت يافطة “الأزمة”، مع التذكير بأن الأسد الابن ورث عن أبيه “المؤامرة الكونية” والأزمات الخانقة التي ينبغي أن يعيشها السوريون بسببها.
هي الحيوات المهدَّدة مع إنشاء أبنية جديدة لا تحقق شروط السلامة، بما أن مسؤولية سابقاتها تُلقى اليوم على المجهول أو على معارضي النظام. المصيبة هي في تسجيل نقاط سياسية بهذه الطريقة، وتالياً منع محاسبة المسؤولين الحقيقيين، سواء كانوا أشخاصاً أو قوانين أو طرائق بناء غير سليمة. العقاب ليس الهدف الأول للمحاسبة في النظم التي فيها قليل من احترام الإنسان، الغاية الأولى هي درء المخاطر وعدم تكرارها.
قد لا يُنجي تقبيلُ الأيادي أردوغان من خسارة الانتخابات المقبلة، ليضحك دائماً وأخيراً من لا انتخابات ولا خسارة لديه. في حلب المنكوبة تحدّث بشار عن الصمود، وظهر كما كان عليه دائماً. النكبة المقبلة تصنع اليوم، ولسان حال أربابها: الأسد صامد، فما همَّ إذا انهار ما تبقى من سوريا، وما سيُبنى بالطريقة إياها، فوق رؤوس أهلها.
“المدن”