أنتج النزاع الإسرائيلي – الفلسطيني الذي يتغذى منذ أكثر من مائة عام من التوترات القومية، الدينية والاجتماعية، واقعاً على مستوى الوعي من الريبة والكراهية والشعور بالتهديد لدى الجانبين، بحيث أنه ليس في وسع أي اتفاق دائم أن يغير ذلك دفعة واحدة. هذه واحدة من الفرضيات الأساسية التي تقف في صلب مبادرة جنيف. فالمبادرة رمت الى اقتراح مسار عملي وملموس لإقامة الدولة الفلسطينية، كما هدفت أيضاً لضمان المصالح الحيوية لإسرائيل والتي تتمثل بعدم تطبيق حق العودة والاعتراف بإسرائيل كبيت قومي للشعب اليهودي، وبالأساس هدفت لترتيبات أمنية مفصلة ومتشددة وحيوية للحفاظ على وجودها ومناعتها.
على هذه الخلفية كان غريباً ومستهجناً الانتقاد الذي وجهه شلومو افينري في صحيفة هآرتس للفصل الأمني من المبادرة وملحقه المفصل. ويبدو أن هذه الانتقادات تتجاهل واقع الحياة هنا حيث لا توجد عائلة إسرائيلية أو فلسطينية لا تحمل جراح هذا الصراع.
ثمة إجابات واضحة في الفصل الأمني الذي نُشر قبل ست سنوات على كل تساؤلات افينري. القوة المتعددة الجنسيات يُفترض أن تعمل فقط في أراضي فلسطين، بحيث لا يتحول سكان إسرائيل الى "رعايا سلطات دولية أخرى" كما يدعي؛ وحائط المبكى وما تبقى من البلدة القديمة في القدس الخاضعة لسيادة إسرائيل ستكون خاضعة للحكم الاسرائيلي وحده، خلافاً للخوف الذي يطرحه افنيري من أن سكان البلدة القديمة سيكونون خاضعين لقوات دولية.
النقاش الجدي للتسويات الأمنية (مثل تجريد فلسطين من السلاح والوجود الدولي) التي تسعى لتحقيق الردع الذي يثني الجانبين عن خرق الاتفاق على المدى القصير، وكذلك عملية المصالحة الطويلة المستقرة، توجب فحص الفرضيات التي تقوم عليها هذه التسويات. من الممكن تلخيصها باختصار:
أولاً، ضمان عدم تحول التهديد الأمني ضد إسرائيل الى تهديد أكثر خطورة من القائم الآن، في حالة انهيار الاتفاق الدائم، ينبغي الحرص على أنه مثلما تقرر في الاتفاق مع مصر (وفي المستقبل مع سوريا)، لن يُسمح بانتشار جيش أجنبي على حدود إسرائيل.
ثانياً، في كل اتفاق ستمتد الحدود الجديدة وفقاً لموقع المستوطنات التي ستضم الى إسرائيل وليس وفقاً للاعتبارات الأمنية الاستراتيجية والتكتيكية. طول هذه الحدود سيكون ضعف الخط الأخضر. بناء عليه ينبغي ضمان أن تستطيع فلسطين إقامة قوة للأمن الداخلي تمنع الأعمال الإرهابية حتى قبل الحدود. هل كان انيري، مثلاً، ليوصي بتفكيك الجدار الأمني الموجود بين إسرائيل وفلسطين فور التوقيع على الاتفاق؟.
ثالثاً، الاتفاق مع الفلسطينيين لن يؤدي الى إزالة كل التهديدات عن إسرائيل. من هنا عليها أن تضمن إمكانية وجود محطات للانذار المبكر وقدرة التحليق الجوي في المجال الجوي لفلسطين.
رابعاً، وجود القوة الدولية يفترض أن يضمن تطبيق الالتزامات المتعلقة بأمن إسرائيل، لكنها تشكل أيضاً ضمانة لأمن الدولة الفلسطينية منزوعة السلاح من الانتقال السريع لإسرائيل لاستخدام القوة.
وأخيراً، الاتفاق يتمتع بالاستقرار ووجوده يتيح للجانبين الحرص بصورة أكثر نجاحاً على مصالحهما الحيوية مما لو كانا من دونه. وعليه، ينبغي النظر إلى الفصل الأمني في إطار رزمة شاملة من معادلة "خذ وهات" التي تتضمن معالجة شاملة لقضايا الحدود واللاجئين والقدس.
إن توصلنا للاتفاق ستضطر إسرائيل لأن تضمن أولاً بأن التسويات الأمنية لن تتغير بواسطة التفسيرات الفظة ونهج القوة الى بذور للفوضى المستقبلية، وأن تفحص أيضاً أن يتيح ترسيخ الاتفاق واستقراره عبر السنين إزالة جزء من الترتيبات الأمنية. حتى ذلك الحين سيكون علينا التصرف بحذر وفطنة، ولا شك في أن الإدارة الأميركية ستتفهم ذلك.
("هآرتس" 9/8/2009)