لا بد من تقديم الشكر الى برنامج الأمم المتحدة الانمائي بشخص الدكتورة مهى يحيى والى فريق العمل الذي قام ويقوم بجهود كبيرة للمساهمة في اعادة بناء لبنانَ وعلى كل المستويات. وكانت آخر اصداراته التقرير الوطني الرابع للتنمية البشرية في لبنان تحت عنوان " نحو دولة المواطن".
وهذه المساهمة تحاول السعي الى بلورة خطة عملية لدولة المواطن من خلال اقتراحات وآليات، قد نتمكن من خلال مراكمتها، من الانتقال العملي نحو دولة المواطن التي نسعى اليها للعيش بكرامة وحرية واستقرار وسعادة.
اين تكمن المشاكل التي يعاني منها المواطن اللبناني راهنا؟
ادى طول الاحداث التي عصفت بلبنان مهددة بضرب صيغة عيشنا الوطني التي تشكل نقيضا لصيغة العدو الاسرائيلي العنصرية، بالاضافة الى طول فترة الوصاية السورية، الى تفريغ مؤسساتنا العامة وتجويفها، بالاضافة الى ما اصاب مؤسساتنا الخاصة من عدم تجديد وتحديث وتطوير.
وهكذا ترهلت الادارة العامة و"حُشيت" بالمحاسيب والازلام تحت عناوين مختلفة، منها التوازن الطائفي أو المناطقي أو الحزبي، وكلها أسباب عززت سياسة "الزبائنية" ومكنت الاقطاع السياسي من وضع اليد بشكل أكبر على الشعب اللبناني. وفي المقابل، بنيت على حساب مؤسساتنا العامة مؤسسات بديلة، موازية لها، فسيطرت ذهنية جديدة، لم نعرفها من قبل، عناوينها المحاصصة ومنطق الشركة التجارية والربح السريع غير المبني على الجهد والمنافسة الشريفة. ولكن سرعان ما تبين ان فترة عمل هذه المؤسسات البديلة إنتهت بانتهاء من أوجدها، وبالتالي لا بد من تغيير هذه الذهنية مقدمة للاصلاح المنشود.
والاخطر من كل ذلك، هو ما أصاب نظام قيمنا من تهديم وتهميش واستبدال بمعايير ومقاييس، أقل ما يمكن وصفها به هو أنها "مافيوية"، لا أخلاقية، تؤسس لانهيار داخلي، أو أقله تجعلنا أرضا خصبة لتدخلات الخارج، وتؤسس لنزاع داخلي دائم، طالما ان سلم القيم قد ضُرب وحل مكانه نظام المحاصصة والتقاسم لمغانم ما تقدمه الدولة دون جهد او تنافس مشروع او عدالة.
وأدى كل ذلك الى تآكل هيبة الدولة، فلم تعد تمتلك قرارها الحر والمستقل، وبنيت قوى أمر واقع، لها السيطرة المطلقة، أقله في مناطق نفوذها. وزاد الامور تعقيدا، بعد مقتل الرئيس الحريري، انفلاش الوضع المذهبي استنفاراً ومواجهةً، واصبح الاصطفاف الطائفي كبيرا الى درجة اننا اصبحنا نعيش داخل فيديرالية طائفية مقنّعة، وجاءت نتيجة الانتخابات الاخيرة لتشكل خير برهان على ما تقدم.
وهكذا تحولت الاحزاب الى حزب الطائفة لتشكل الضمانة والملاذ والملجأ لحماية أبناء الطائفة ولترقيهم الاجتماعي والوظيفي والمهني، كل ذلك على حساب مشروع الدولة وعلى حساب تنظيف مؤسساتنا الوطنية تمهيدا لاعادة تعميرها على اسس واضحة من العدالة والمساواة وتكافؤ الفرص.
والخوف الكبير، الذي يجب أن يخشاه الجميع راهنا، هو ان نكون، مرة جديدة، ضحية لعبة أمم ما، في ظل التفكك الداخلي والتربص الاسرائيلي الدائم بنا وبدول المنطقة، تحقيقا لقاعدة "فرّق تسد". خاصة مع ما تسرب، ولا يزال، بطرق مختلفة، حول تورط اطراف لبنانية في عملية اغتيال الرئيس الحريري، بالاضافة الى ما ينتاب اوضاع المنطقة من اضطرابات وانقسامات تهدد بانهيار نظريات دينية عقائدية ذات مردود سلبي على اكثر من منطقة ودولة، بالاضافة الى الحراك المتجدد على مستوى مشروع السلام العربي – الاسرائيلي وخطر التوطين، مرورا بما عاد يدغدغ مشاعر البعض من مشاريع قديمة، ثبت عقمها وفشلها، حول تحالف للاقليات، واستقواء بالخارج على ابناء الداخل تمهيدا لاعادة التوازن داخل الوطن. في ظل أوضاع كهذه، كيف يمكن مقاربة موضوع تعزيز دولة المواطن، الخائف على حياته وحياة اولاده والمهدد بخسارة مدخرات اجيالٍ واجيالٍ من عائلته؟
ولمقاربة هذا الموضوع الشائك والمتحرك والمتداخل بأزمات ومشاكل وعقائد متناحرة والمسكون بتهديد السلم الاهلي، لا بد من مقاربة موضوعية، متواضعة، مبنية على تجربة خاصة، تفتح النقاش لبلورة تصور وطني جامع.
أبدأ أولا بالاعتراف، أن قدرتنا على التأثير على العوامل الخارجية وتأثيراتها علينا هي متواضعة جداً، هذا اذا لم نكن نساهم، عن جهل، في خلق الاجواء المؤاتية لتدخل الخارج…
وعليه، يبقى انه بامكاننا ان نحاول الامساك بمصيرنا الوطني للحد من تأثيرات الخارج علينا. وهذا الأمر يحتاج الى ارادة وطنية واعية، حرة وغير مرتهنة للخارج. ويظهر مما تقدم ومن تطور الاحداث، انه يصعب الادعاء بتوفر هذه الارادة… أقله في الوقت الراهن.
انطلاقا من هذا الواقع الصعب، علينا العمل على مستويات عدة:
اولا – على مستوى بناء الثقة بقدراتنا الوطنية، من خلال تظهير نماذج ناجحة في مجتمعنا، والاضاءة عليها، ودراسة اسباب نجاحها، تمهيدا لتعميمها على قطاعات ومجالات اخرى. (الرجاء مراجعة التقرير الوطني للتنمية البشرية بعنوان "مئة قصة وقصة" الذي حاول الاضاءة على تجارب ناجحة في مجتمعنا).
فلنأخذ مثلا على مستوى المؤسسات العامة، المديرية العامة للامن العام، التي تعمل بطريقة منهجية، علمية ومبسطة، فلا يحتاج المواطن، أي مواطن لانجاز معاملاته، سوى اتباع الاصول المطلوبة والمعلنة بشفافية للحصول على طلبه. فطريقة تقديم المعاملات ودفع الرسوم المتوجبة والقيام بالاجراءات ومدة انجاز المعاملات. كلها أمور واضحة، لا تحتاج لتدخلات "خارجية" لتسريع انجازها. وحتى الاستثناءات قد جرى لحظها ايضا عند الضرورة، كامكان الحصول على جواز السفر بمدة قصيرة مثلا مقابل دفع رسم اضافي وتبرير سبب العجلة.
وعلى مستوى المؤسسات الخاصة، هناك نماذج كثيرة ناجحة يمكن الاكتفاء بذكر بعضها كـ"شركة سوكلين" التي تعمل بمهنية وفاعلية كبيرة في ميدان النظافة والمحافظة على البيئة. و"شركة ليبان بوست" التي استطاعت، بجدارة ادارتها اللبنانية، ان تحل محل شركة عالمية متخصصة في مجال البريد، وان توسع، بتدرج، نطاق خدماتها وان تكسب ثقة الشعب اللبناني التي بات يأتمنها لانجاز اكثر معاملاته دقة وحساسية.
أكتفي بهذا القدر من الامثلة للقول بأن نجاح هذه المؤسسات يجب ان يشكل حافزا للعمل في مجالات اخرى والتوصل الى نجاحات مماثلة متبعين الطريقة التي عملت بها والقائمة على "مأسسة" عملها بشكل لا مجال للتدخل "السياسي" فيه للحصول على الخدمة المطلوبة، فطريقة الحصول على الخدمة واضحة وكذلك الاجراءت المطلوبة، وحتى الاسثناءات مضروب حسابها لمنع الاحتكاك او طلب المساعدة الخارجية.
ثانيا – وعلى مستوى متمم لما سبق ذكره، يبقى ان نعطي للمبادرة الفردية، على المستوى المحلي، حدودها القصوى للتعبير عن احتياجات وتطلعات ورغبات الناس، ضمن الاطر القانونية المسموحة، فنخلق منافسة ايجابية نحو الافضل.
بالامكان تعداد مؤسسات ناجحة في المجتمع المدني، استطاعت ان تغير الذهنية من خلال العمل معا، فشكلت فرق عمل متخصصة في شتى المجالات التي تعمل فيها، وأشركت، خاصة، جيل الشباب والعنصر النسائي في تحمل المسؤولية وفي التدرب على الانتاج وعلى التسويق وعلى المثابرة في العمل بلوغا للاهداف المرسومة. وهي باتت تؤمن، في بعض المجالات، اكتفاء ذاتيا لعدد كبير من المنتسبين اليها بحيث يعيش الجميع بكرامة وبحبوحة وسعادة.
وشركة كهرباء زحلة التي استطاعت ان توزع الطاقة ضمن نطاقها الاداري بشكل ناجح، تشكل خير دليل على ذلك. فماذا يمنع من ان تقوم بانتاج الطاقة محليا ايضا تمهيدا لتوزيعها؟ فعلى قاعدة الغرم بالغنم نستطيع البدء بحل تدريجي لمشكلة الكهرباء المزمنة والمكلفة.
يجب الاعتراف بأنه لا يمكن الادعاء بحل مشاكلنا المزمنة، والتي تراكمت بفعل طول الاحداث، بعصا سحرية، بل بالعمل الجاد، والنفس الطويل، التراكمي، وبتحديد أهداف واضحة، قابلة للقياس، حتى نتمكن من تحديد نسبة تقدمنا وتصحيح ما يجب تصحيحه خلال مسيرتنا في حال توجب ذلك.
علينا الاستفادة من طاقات أجيالنا الجديدة ومن الخبرات التي حصلت عليها في عملها في الخارج ومع شركات عالمية، وتحضير الاجواء والبيئة المؤاتية لتوظيف هذه الطاقات لمصلحة وطننا وداخل وطننا، فنوقف نزيف الهجرة ونؤمن استمرارية اجيالنا وما يلزم لحياة آمنة ومستقرة كريمة.
وفي هذا المجال، يشكل العمل البلدي الذي هو السلطة المحلية، المرتكز لاحداث التغيير والتطوير والتحديث المطلوبة. وهناك بلديات كثيرة تشكل نماذج ناجحة، يمكن الاقتداء بها في هذا المجال، لأنها احدثت نهضة عمرانية وثقافية وفنية وادبية كبيرة ضمن نطاق عملها، بل اصبحت مثالا يقتدى به.
وهذه السنة هناك استحقاق أساسي جديد هو الانتخابات البلدية التي يجب البدء بالتهيئة لخوضها وتجنيد القوى الحية لها، متجاوزين العصبيات العائلية والحزبية والطائفية. انها مناسبة لإطلاق حركة تغيير حقيقية في المجتمع السياسي ولاحقا في هيكلية الدولة، لأننا نعيش زمن سقوط الاحزاب القديمة التي فشلت في تقديم الحلول وبرمجتها وفرضها، وزمن سقوط العقائديات التي تجاوزها التاريخ وتحنطت في شعارات قديمة، وزمن سقوط مؤسسات الحكم التي ورثت الاخلاق الميليشيوية وهي عاجزة عن تقديم أبسط متطلبات الحياة الكريمة.
انها دعوة الى ان تتكتل القوى الحية في مجتمعنا، المتحررة من رواسب الانقسامات، صاحبة المصلحة في تخطي الترسيمات السياسية الراهنة والمستفيدة من تجارب الماضي الأليمة، فتمسك بمصيرها حاضرا ومستقبلا، وتعمل على بناء الدولة على صورتها، انطلاقا من خلق المؤسسات المحلية، الديموقراطية، القائمة بذاتها، والمتمتعة بحرية التصرف والاقرار.
ولأن "البلدية ادارة محلية تقوم ضمن نطاقها بممارسة الصلاحيات التي يخولها اياها القانون. وهي تتمتع بالشخصية المعنوية والاستقلال المالي والاداري في نطاق هذا القانون"، فإنه يكفي العودة الى اختصاصات البلديات المنصوص عنها في المرسوم الاشتراعي رقم 118 تاريخ 30 حزيران 1977 لتبيان المدى الكبير لهذه الاختصاصات المهمة والشاملة وكلها لخدمة المواطن.
وبالرغم من ان تجربة النظام البلدي في لبنان غير مشجعة في إعطاء صورة مقبولة للادارة الذاتية المحلية وللممارسة الديموقراطية، فقد أخذت وثيقة الوفاق الوطني بهذا الواقع وأوصت باعتماد اللامركزية الادارية الموسعة على مستوى القضاء بحيث تكون أوضح تمثيلا للحاجات المحلية وأكثر تعبيرا عن رغبات المواطنين. من خلال تقسيم اداري جديد يؤمن الوحدة الوطنية ويضمن الحفاظ على العيش المشترك ووحدة الارض والشعب والمؤسسات. ألم يحن الوقت لوضع ما تبقى من وثيقة الوفاق الوطني قيد التنفيذ مستفيدين من كل التجارب والدراسات والابحاث والجهود التي تقوم بها مؤسسات دولية ووطنية متخصصة فنضعها موضع التطبيق؟
محام
"النهار"