مصطلح «خبير استراتيجي» يكاد يصير مثيراً للسخرية، فقد صار يطلق على كل شخص يتحدث في موضوع بعينه، سواءً كان ملماً بما يتحدث عنه أم لا. فقد كثر هؤلاء الخبراء، ولسنا نعلم من أي شجرة يتساقطون. ففي كل مرة يطرأ فيها حدث سياسي أو اقتصادي، تفاجئنا التلفزيونات بخبير جديد، أو خبيرة جديدة، فهذه التلفزيونات لا ترضى أن تكتفي شاشاتها بوجوه المذيعين، بل تسمح باحتلالها لأشخاص يُقال إنهم خبراء في العلاقات الدولية، أو تفسير الظواهر الطبيعية، أو في الثرثرة في شؤون الأسواق المالية. هؤلاء «الخبراء» اللحظيون، الذين يتغيرون بتغير الحدث، قد يكونون أساتذة في جامعة، أو ساسة أو رجال مال أو صحافيين، كلهم يتزاحمون في تحرير حيز لهم في الشاشة، كمن يسعى إلى تحرير أرض يرفع فيها رايته. يصيرون خبراء لبضع دقائق ثم ينصرفون إلى حياتهم العادية، فلا نسمع شيئاً آخر عنهم، لا كتب قد نعود إليها ولا مقالات، بل علاقتهم مع الناس مرئية، ثم إنهم يتعددون في خبراتهم، قد يتحدث أحدهم في شأن داخلي، ثم في الشهر التالي يصير متحدثاً عن أزمة الماء في الصحراء، ولن يطول به الأمد قبل أن يتكلم في شؤون اللاجئين، أو عن تاريخ الرياضة. إنهم أشخاص وهبتهم السماء قدرة على السير في المسالك كلها، الضيقة منها والواسعة، دون تعب ودون أن يشعروا بأن الحذاء الذين ينتعلونه أقل من مقاسات أرجلهم.
والمتفرج يتساءل في خلده: لماذا يسمح هؤلاء لأنفسهم بالمشاركة في النقاشات كلها؟ ألا يشعرون بأنهم يُسيئون لأنفسهم بكلامهم عما يحصل وعما لا يحصل؟ يبدو أن ما يسعى إليه من يطلق على نفسه، أو من يطلق عليه غيره لقب «الخبير الاستراتيجي» إنما يسعى إلى الظهور وكفى، فعلة وجوده هو أن تتداول التلفزيونات صورته، ذلك هو مكسبه، أن يراه الناس، فمجرد أن يأتي لفظ اسمه، أو يشع وجهه في التلفزيون فذلك هو أبلغ رجائه، إنها حرب من أجل الظهور وليست من أجل قول ما ينفع المشاهد. في المقابل فإن التلفزيونات تفهم أن ذلك الخبير لن يُفيدها بشيء في الموضوع الذي تعرضه على المتفرجين، لكنها تصر عليه لأنها بحاجة إلى ملء ساعات البث، وكي لا يمل المشاهد من وجه المذيع (ة) وحده (ها). بالتالي فنحن بصدد نصب على الجمهور، نبيعه الكلام، ونعدد من وجوه الخبراء، بل نخترع كل يوم خبيراً جديداً، حتى صار عددهم أكثر من عدد مشاهديهم.
تعسف الصورة
حين يتيح التلفزيون الحق في الكلام لهؤلاء «الخبراء الاستراتيجيين» فإنه يفرض عليهم أيضاً ديكتاتورية ناعمة، أو «رقابة لا مرئية» على رأي بيار بورديو. فبمجرد أن يظهر الشخص على الشاشة فإنه يفقد حريته، بحكم أنه لن يتكلم في ما يعرف، بل سوف يتكلم ويجيب فقط على الأسئلة التي تطرح عليه، لا يحق له الاسترسال ولا أن يفصل في الموضوعات التي يجيد الكلام فيها، بل عليه الانضباط مثل جندي في ثكنة، وتقبل السياقات التي سوف يفرضها عليه المذيع. ثم رداً عمن يقول إن هؤلاء الخبراء يتكلمون من غير أن يقولوا شيئاً ذا منفعة، فالسبب في ذلك أنهم محكمون بالوقت، ويتوجب عليهم التلفظ بما يعرفون، في الحيز الزماني الأدنى، وكلما أرادوا شرحاً أوفى من شأنه أن يفيد المشاهد، فسوف يسقط على رأسهم حق (الفيتو) الذي يحوزه المذيع وحده، فيجعلهم في حرج من أمرهم، ولعل بعضهم من شأنه ـ حقاً ـ أن يفيد النقاشات، لكن مرورهم يظل هامشياً، نظراً إلى هذا التعسف، وهم على علم مسبق بأن ظهورهم في التلفزيون يخضع لإكراهات، ومع ذلك يصرون على تكراره، متقبلين تلك «الرقابة الناعمة» فلا يحتجون خوفاً من أن يُقطع عليهم الصوت، فيصيرون مجرد صورة تحرك شفتيها، مثل من يكلم الفراغ، مدركين أن وسائل الإعلام تحيا في جو من التحفظ، ومن الاحترازات السياسية، وأن حريتها هي أيضاً مشروطة بالحقبة التي تعيش فيها.
فضل المجتمع على السياسة
جرت العادة على أن يظهر من يُطلق عليهم لقب «خبراء استراتيجيين» في نشرات الأخبار وفي البرامج السياسية، وهي برامج لا تحظى بنسب مشاهدات عالية، بحكم أن المعلومة باتت متاحة، في كل حين، لاسيما على السوشيال ميديا، والمتفرج ليس مضطراً أن ينتظر نشرة أخبار كي يعرف ماذا جرى أو ما يجري، بالتالي فإن الفضائيات تضاءل تركيزها على هذا النوع من البرامج، وتصر فقط على أن يحافظ المذيع على خط سياسي معين، ويحترم السياسة العامة للجهة الممولة، كما أن الناس ينصرفون عن برامج السياسة مثلما ينصرفون عن كل البرامج التي تحدث شقاقاً وصدامات في الرأي، بالتالي تصير استضافة خبير أمرا ذا أهمية دنيا، فليس هو العصب الذي يتكل عليه البرنامج، وكلامه مهما كان مهماً فلن يكون سبباً في رفع نسب المشاهدة أو خفضها، من هذا المنطلق تتسع فوضى الخبراء، وفي كل مرة نحتاج إلى ملء الوقت، نبتكر واحداً منها، وحتى إن كان الحديث في موضوع لا يفقه فيه إلا قليلاً، لأن الفضائيات تركز على نوع آخر من البرامج التي تجلب لها مشاهدين، ولاسيما برامج (المتفرقات). ونقصد من هذه الكلمة برامج تعالج قضايا اجتماعية، تظل راهنة مهما مرّ عليها من زمان، أي برامج عن المخدرات مثلاً، عن الجنس، عن الشباب، تلك المواضيع التي تراوح بين التسلية، وفضح ممارسات اجتماعية، هي ما يجلب أكبر قدر من المشاهدين، وهناك يصير «الخبير» خبيراً حقاً، ولا يستضاف سوى من كان عليماً بالثيمة التي يتحدث عنها، عكس برامج الأخبار والسياسة، حيث وجود خبير ليس الغاية منه سوى تقليص الحجم الساعي الذي يمضيه المذيع أمام الكاميرا، كي لا تصير صورته مبتذلة أمام المشاهدين.
روائي جزائري
“القدس العربي”