في كثير من مؤلفات الأديب والآثاري والفيلسوف والوزير الفرنسي أندريه مالرو (1901ـ 1976) التي تناولت مجتمعات آسيوية، ولكن في أعمال مثل «إغواء الغرب» و«الدرب الملكي» و«الوضع البشري» و«الغزاة» و»مذكرات مضادة» على نحو محدّد؛ يُعثر على استيهامات شتى حول الحريم والأميرات والسحرة والعفاريت والإبل وأكلة لحوم البشر. الأوروبي، في المقابل، يندر أن يظهر بمنأى عن صورة السوبرمان النيتشوي، الذي «يتغنى بالقوّة العارمة وحدها، ولا يهمه أمر المجتمع في شيء»، كما يقول غارين بطل رواية «الغزاة».
لا يعدم المرء، في المقابل، شذرات متفرقة، بعضها أخاذ وفاتن حقاً، عن اليمن عموماً، ومنطقة سبأ خصوصاً؛ فضلاً عن توصيف (يظلّ غائم الملابسات، حتى الساعة) لواقعة تحليق مالرو في سماء اليمن سنة 1934، بطائرة استطلاع فرنسية، صحبة الضابط والسياسي الفرنسي إدوار كورنيليون ـ مولينييه؛ على سبيل ما كان يُعرف يومذاك بالتنقيب الجوّي، بحثاً عن مدينة سبأ. يُحفظ له، أيضاً، القرار الشجاع الفريد الذي اتخذه، من موقع وزير الثقافة، في الطلب من مدفعية ميناء مرسيليا أن تطلق 21 طلقة احتفاءَ بتمثال الملكة زنوبيا، الآتي من سوريا إلى معرض فرنسي.
وقد يصحّ أن تُستعاد هذه اللفتة الفارقة من مالرو في أية مناسبة ذات صلة بالملكة زنوبيا زوجة الملك أذينة ووالدة وهب اللات، وتاريخ تدمر الحافل خلال القرن 19 قبل الميلاد؛ خاصة مقاومة الإمبراطورية الرومانية، والكفاح من أجل استقلالية مملكة النخيل، وصولاً إلى حصار المدينة وأسر الملكة وإذلالها، في برهة من أكثر المنعطفات غطرسة في تاريخ روما والإمبراطور أورليان شخصياً. إحدى هذه المناسبات كتاب «الحياة الحكومية لنساء العصور الغابرة، 500 ق. م. – 650 بعد الميلاد»، الذي صدر مؤخراً ضمن منشورات بريل في لايدن، بتحرير مشترك من لوسيندا ديرفن ومارتين إيكس وسوفي ريميسن.
عناوين فصول الكتاب الخمسة تتناول شخصية الملكة المحاربة، والإمبراطورة الحاكمة بعد وفاة زوجها، وعلاقات الصورة التي سجلتها التواريخ المختلفة بالحقائق والأحداث الفعلية، ثمّ دور الكاهنات والفضاء الديني عموماً في صياغة العرش والسلطة. أمّا الفصل الثالث، الذي كتبته ديرفن أيضاً، فيُعقد لاثنتين من مليكات وسط سوريا: زنوبيا، التي حكمت بين 268 وحتى 272؛ وماوية، الغسانية التنوخية الملقبة بـ»ملكة سوريا»، التي قادت ثورة ضدّ روما في سنة 378 وأركعت الإمبراطور فالانس. ومن المؤسف أنّ القارئ العربي لا يعثر إلا على كمّ شحيح من المعلومات حول الملكة الثانية، عند جواد علي تحديداً، ولهذا فإنّ دراسات من الطراز الذي تقترحه ديرفن خصوصاً، وفصول هذا الكتاب الهامّ عموماً، تغلق فجوة في هذا الميدان؛ الحيوي المطلوب والضروري، بقدر ما هو مساحة للمغالطات بصدد موقع المرأة في الحياة السياسية والاجتماعية والعسكرية للمنطقة.
وديرفن هي أستاذة التاريخ والأديان القديمة في جامعة لايدن والمختصة بأحقاب هللينية في مناطق سورية مثل تدمر ودورا أوربوس في سوريا، وعراقية مثل هاترا (الحضر)، فضلاً عن الغرب الرومي (خاصة عبادة ميترا، أو الميثرانية، خلال أواخر القرن الرابع). طبيعي، استطراداً، أن تشتغل في هذا الفصل الشيّق على التاريخ وعلم الآثار وبعض الأنثروبولوجيا أيضاً، ناظرة إلى وقائع حضور الملكتَين زنوبيا وماوية من زوايا إشكالية؛ لا تُغفل حاضر النقاش حول موقع المرأة في المجتمعات العربية الحديثة والمعاصرة، ولكنها تقرأ ذلك في ضوء الدلالات العميقة التي توفّرها حوليات حكم المملكتَين.
وتلفت ديرفن الانتباه إلى أنّ إصرار مصنفات التاريخ الغربية على الجمع بين الاثنتين «في نَفَس واحد» كما تقول، لا يعكس حرصاً على تكريمهما معاً وبمقادير متساوية؛ بقدر ما يكشف عن نزوع ضمني لإبقاء طراز من التنميط حول نُدرة صعود المرأة إلى مصافّ عليا في الحكم داخل مجتمعات المنطقة، قديمها هذه المرّة مثل حديثها… سواء بسواء! وتكتب: «بالنظر إلى أنّ أصولهما تعود إلى ما يُسمى اليوم العالم العربي»، فالنقاش في تلك المصنفات يقود إلى أنّ «فرص النساء العربيات في حيازة سلطة كونية كانت أفضل ممّا يوحي الوضع الراهن». وأمّا الاستطراد التالي، الذي لا يقلّ استشراقاً في ناظر هذه السطور، فهو أنّ تلك الفرص «عائدة إلى التنظيم القَبَلي والبطريركي لتلك المجتمعات»، وما يُدهش هنا هو أنّ الاعتبارات ذاتها التي يرجحها بعض المؤرخين الغربيين في تفسير علوّ شأن أمثال زنوبيا وماوية، هي ذاتها التي تجعلهم يستسهلون تأويل انحسار سلطة المرأة في العصور الحديثة!
على الجانب الآخر من السجال، لن يغيب إلحاح عدد من المؤرخات النسويات على إبراز ثلاثة جوانب مترابطة في شخصية المرأة التي تقلدت مواقع سياسية وعسكرية ورمزية عالية في التاريخ القديم، إياه: أنها، في آن معاً، الملكة، والإمبراطورة، والمحاربة؛ وتلك صفات أقرب إلى درجات رفيعة في السلطة والحكم، يتوجب أن تعيد الاعتبار إلى النساء الحفيدات على امتداد العصور التي تعاقبت إجمالاً، ولكن في الأحقاب الراهنة المعاصرة على وجه الخصوص.
وبذلك فإنّ الطلقات الـ21 من مدفعية مرسيليا في استقبال زنوبيا ليست بعيدة عن السجال؛ الساخن بدوره، وإنْ في فصول المؤلفات وحوليات التاريخ.
“القدس العربي”