عام 1914، نظرت دول عدة إلى مسألة محلية الطابع في الأساس من منظار المخاوف والإحباطات القائمة آنذاك إلى درجة أنها أصبحت عالمية في نطاقها وأدت إلى اندلاع الحرب العالمية الأولى. لا خطر في اندلاع حرب شاملة الآن. لكن ثمة خطر بأن يتم التعامل مع نزاع نابع من الأهواء القديمة وكأنه صورة مجازية لنزاع أوسع، مما يهدّد موجب بناء نظام دولي جديد في عالم من العولمة والانتشار النووي والنزاعات الإتنية.
كان من المحتم أن يطلق الوجود الروسي على أراضي دولة نالت استقلالها حديثاً من الامبراطورية السوفياتية القديمة، هزات ارتدادية عبر البلدان الأخرى التي نشأت بعد انهيار الاتحاد السوفياتي. وقد سبّب ذلك خطاباً من المواجهة والتهديدات المتبادلة والإجراءات المضادة الانتقامية: توجهت القوات البحرية الأميركية إلى البحر الأسود؛ ونُشِرت الإمكانات العسكرية والاقتصادية الروسية في الكاريبي، وكأننا أمام لعبة توازن قوى من القرن التاسع عشر.
يُشار إلى الأزمة الجورجية بأنها إثبات على أن روسيا فلاديمير بوتين ملتزمة خطة استراتيجية تقوم على تفكيك النظام الدولي ما بعد السوفياتي في أوروبا. وقد جرى الرد عليها بالمناداة باستراتيجيا عزل روسيا.
يجب وضع حد لهذا الانجرار نحو المواجهة. على الرغم من أن عزل روسيا مناسب كوسيلة موقتة لإظهار قلقنا، إلا أنه ليس سياسة مستدامة في المدى الطويل. فعزل بلد مجاور لأوروبا وآسيا والشرق الأوسط ويمتلك مخزوناً من الأسلحة النووية شبيهاً بمخزون الولايات المتحدة ليس أمراً ذا جدوى ولا مرغوباً فيه. نظراً إلى علاقات روسيا الملتبسة تاريخياً وغير الآمنة عاطفياً بمحيطها، على الأرجح أن هذه المقاربة لن تقود إلى ردود فعل مدروسة أو بنّاءة.
على غرار معظم الحروب، كان السبب وراء الأزمة الجورجية سلسلة من الأخطاء في الحسابات. أساءت تبليسي تقدير قدرتها على القيام بعمل عسكري، وحجم الرد الروسي. ومن جهتها، ربما فوجئت موسكو برد فعل الغرب على حجم تدخلها. وربما لم تفكر ملياً في التأثير الذي يمكن أن يمارسه الاعتراف بأوسيتيا الجنوبية وأبخازيا كدولتين مستقلتين على بلدان أخرى ذات أقليات إتنية متمايزة جغرافياً، أو في السابقة التي يمكن أن يرسيها هذا الأمر، حتى بالنسبة إلى بعض المناطق في روسيا.
لكن يجب ألا يُسمَح لهذه الأخطاء في الحسابات بأن تسيطر على السياسة المستقبلية. لدى أميركا مصحلة كبيرة في الحفاظ على سلامة الأراضي في جورجيا مستقلة، إنما ليس بديبلوماسية مواجهة حيال روسيا من جانب جيرانها. يجب أن تفهم روسيا أن استعمال القوة العسكرية أو التهديد باستعمالها يثير ذكريات تزيد من حدة العقبات التي تقف في وجه قيام علاقات من التعاون والتي هي في أساس مظالمها. يجب أن تقرر أميركا إذا كان عليها أن تتعامل مع روسيا كشريك محتمل أو كتهديد يجب محاربته بمبادئ مستمدة من الحرب الباردة. بالتأكيد إذا واصلت روسيا السياسات التي ينسبها إليها معارضوها، يجب على أميركا أن تقاومها بكل الإجراءات المناسبة. ومن شأن من كانوا يتولون مسؤوليات من بيننا في قيادة الحرب الباردة، أن يكونوا في صدارة الداعمين لهذه الاستراتيجيا.
لم نبلغ بعد هذه المرحلة. لا شك في أن القادة الروس يأسفون لتداعي الامبراطورية الروسية والسوفياتية. لكن إذا كانوا يتحلون بالواقعية – وهم يتحلون بها بحسب تجربتنا – فهم يعلمون أن السعي إلى تغيير التاريخ الروسي من خلال الوسائل العسكرية أمر مستحيل وخطر.
يتسم التاريخ الروسي بالتأرجح الملتبس بين كوابح النظام الأوروبي وإغراءات التوسع نحو الفراغات الاستراتيجية على طول الحدود الروسية في آسيا والشرق الأوسط. لم تعد هذه الفراغات موجودة. في الغرب، لدى حلف شمال الأطلسي (الناتو) وجود استراتيجي قوي. وفي الشرق، هناك آسيا الصاعدة التي يتحول نحوها مركز ثقل الأعمال التجارية العالمية. وفي الجنوب، تواجه روسيا إسلاماً راديكالياً إلى حد ما على امتداد حدود طويلة. وعلى الصعيد الداخلي، تشير التوقعات الديموغرافية إلى تراجع في عدد السكان الإجمالي وارتفاع نسبي في النسبة المئوية للسكان المسلمين الذين يشعرون بالاستياء إلى حد ما. ولم تتمكن روسيا من إيجاد الحلول المناسبة لبناها التحتية والعجز الصحي الذي تعاني منه. وليست روسيا التي تملك إجمالي ناتج محلي أقل من سدس إجمالي الناتج المحلي الأميركي (على أساس تعادل القدرة الشرائية)، وموازنة دفاعية أقل بكثير من موازنة كل من الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، في موقع يخوّلها قيادة صراع بين قوى عظمى. ويدرك القادة الروس ذلك بغض النظر عن الخطاب الذي يعتمدونه.
ما سعى إليه هؤلاء القادة، بطريقة خرقاء أحياناً، هو قبولهم كأنداد في منظومة دولية جديدة بدلاً من خاسرين في حرب باردة يمكن فرض شروط عليهم. وكانت أساليبهم همجية من حين لآخر. لم تكن روسيا قط بارعة في فهم بسيكولوجيا محيطها الدولي – وأحد الأسباب هو الاختلاف التاريخي في التطور الداخلي بين روسيا وجيرانها ولا سيما جيرانها الغربيين.
لكن من الإنصاف أن نقر بأن الغرب لم يكن على الدوام مدركاً للصورة التي يبدو عليها العالم انطلاقاً من موسكو. لنأخذ على سبيل المثال تطوير "الناتو". في السنوات الخمسين الأولى، اكتسب "الناتو" شرعية كحلف دفاعي. وعبر خوضه حرباً بملء إرادته ضد يوغوسلافيا عام 1999، أعلن الحلف أنه يملك حق تحقيق طموحاته الأخلاقية من خلال العمل العسكري الهجومي (دعمنا بقوة سياسة "الناتو" في ذلك الوقت). وأدّت الحرب الى وقف الانتهاكات الصربية لحقوق الإنسان في كوسوفو، والتي انتهت بوساطة روسية إلى حد ما، وإلى حصول كوسوفو على حكم ذاتي في ظل سيادة صربية اسمية إنما مع إشراف فعلي من جانب الاتحاد الأوروبي. في مطلع العام الجاري، تغيّر هذا الوضع من خلال قرار هو في الواقع قرار أحادي اتخذته مجموعة من الدول الأوروبية والولايات المتحدة وقضى بإعلان استقلال كوسوفو من دون موافقة الأمم المتحدة وفي ظل معارضة روسية شديدة.
وتزامن إعلان استقلال كوسوفو تقريباً مع صدور الخطة الخاصة بوضع دروع مضادة للصواريخ الباليستية في بولندا والجمهورية التشيكية وكذلك مع اقتراح لدعوة أوكرانيا وجورجيا للانضمام إلى "الناتو". كان من المستبعد أن يحظى نقل الخط الأمني بين الشرق والغرب ألف ميل نحو الشرق، في فترة قصيرة تاريخياً، إلى جانب تغيير مهمة "الناتو" ونشر تكنولوجيا تسلح متقدمة على أراضي دول كانت تدور في الفلك السوفياتي سابقاً، بموافقة روسية.
تفسّر هذه المعطيات بعض الدوافع الروسية؛ فهي لا تسعى إلى تبرير كل ردود الفعل أو الخطاب الصدامي الذي يُستعمَل من حين لآخر. بل تشير إلى أهمية النظر إلى النزاع الحالي انطلاقاً من وجهة نظر تاريخية وبسيكولوجية.
يجب ألا تجعلنا النزاعات الفورية ننحرف عن المسؤوليات الطويلة الأمد. تقدّم النقاط الست التي وضعها الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي إطاراً لحل الأزمة الجورجية يحظى بموافقة رسمية من الأطراف كافة: جورجيا مستقلة بكل معنى الكلمة ضمن حدودها القائمة في حين يظل وضع أوسيتيا الجنوبية وأبخازيا – الذي هو محط تنازع منذ تأسيس جورجيا – مطروحاً على التفاوض ضمن إطار العمل الأمني بحسب نقاط ساركوزي.
في نيسان، التقى الرئيس بوش والرئيس الروسي آنذاك بوتين في سوشي، ووضعا برنامجاً من التعاون المشترك للتعامل مع المقتضيات الطويلة الأمد للنظام العالمي. وقد تضمن الرنامج مسائل مثل حظر الانتشار النووي، وإيران والطاقة والتغير المناخي والأساليب الواجب استعمالها لكبح تأثير نشر دروع مضادة للصواريخ الباليستية في أوروبا الشرقية، والربط المحتمل بين بعض أنظمة الدفاع الأميركية والروسية المضادة للصواريخ الباليستية. يملك البلدان أكثر من تسعين في المئة من الأسلحة النووية العالمية؛ والتعاون بينهما ضروري لوقف انتشار هذه الأسلحة.
تشكّل وثيقة سوشي خريطة طريق مفيدة. بالتأكيد لا يجب السماح لروسيا باستعمال الحديث عن المصلحة المشتركة كوسيلة لمعالجة مشاغلها الخاصة من خلال الضغوط العسكرية والترهيب. من يتساءلون بيننا عن الأسباب وراء الإلحاح على ضم جورجيا وأوكرانيا إلى "الناتو" لا يدافعون عن امتلاك روسيا دائرة نفوذ في أوروبا الشرقية. فنحن نعتبر أوكرانيا جزءاً أساسياً من الهندسة الأوروبية، ونشجّع تطوراً سريعاً نحو العضوية في الاتحاد الأوروبي. ونعتبر أنه يجب وضع أمن أوكرانيا وجورجيا في سياق أوسع من التقريب الميكانيكي لقيادة "الناتو" الموحّدة كي تصبح على بعد بضع مئات الأميال من موسكو. لقد سبق أن وافق "الناتو" على مبدأ عضوية أوكرانيا وجورجيا. وتأجيل التطبيق حتى يصبح بإمكان إدارة أميركية جديدة النظر في خيارات العضوية ليس تنازلاً إنما إدارة مسؤولة للمستقبل.
أخيراً، تتطلب قدرتنا على إدارة سياسة خارجية فعالة ضد روسيا بذل جهود حثيثة لاستعادة قوتنا الداخلية. يجب ترتيب منزلنا المالي، ليس فقط في ما يتعلق بالأزمة الحالية إنما أيضاً هيكلية برامج التأهيل. نحن نعتمد أكثر من اللازم على الواردات النفطية. ونحتاج إلى تشريعات تمنح آفاقاً طويلة الأمد للجهود الشاملة والدؤوبة الهادفة إلى وضع حد لما آلت إليه الأمور.
الديبلوماسية من دون حزم عقيمة. والحزم من دون ديبلوماسية يجنح نحو البهورة. نعتبر أن المصالح الأساسية للولايات المتحدة وأوروبا وروسيا هي الآن – أو يمكن جعلها – أكثر انسجاماً من أي وقت آخر في التاريخ الحديث، على الرغم من تداعيات الأزمة الجورجية. يجب ألا نهدر تلك الفرصة.
ترجمة نسرين ناضر