ترجمة: علاء الدين أبو زينة
يبدو أن النظام الدولي الما- بعد- غربي متعدد الأقطاب قد أصبح قيد التشكل. وبينما يتصارع العالم مع الآثار المترتبة على هذا التحول في مراكز القوة، تتهيأ الأسس لإجراء جردة حساب عظيمة. وسوف تتحدى هذه المراجعة المعتقدات والهياكل الراسخة التي أبقت الهيمنة الغربية على العالم قائمة على مدى مئات السنين الماضية، وتعرّي على الطريق أحقية استحقاق الغرب المتصوَّر لقيادة نظام الهرم العالمي. وستكون النتيجة النهائية إعادة تقييم مهمة للعلاقات الدولية كما نعرفها، كما كتبت مجلة “ذا ناشيونال إنترست” الأميركية.
سوف تكون جردة الحساب الكبيرة هذه مدفوعة بخمسة اتجاهات رئيسية، تجبر الدول الغربية على مواجهة مستقبل يتوجب فيه تقاسم السلطة مع البقية في عالم متعدد الأقطاب. ويمكن أن يشكل الفشل في الاعتراف بهذه الاتجاهات أو محاولة مقاومتها بعناد مخاطر كبيرة -ليس على الغرب نفسه فحسب، وإنما على الاستقرار العالمي الأوسع. ومع ذلك، يمكن تجنب الصراعات المستقبلية إذا ما نُظر إلى فترة التحوُّل هذه باعتبارها فرصة لبناء عالم أكثر إنصافًا، وليس كأزمة تهدد الامتيازات المفضلة والمتخندقة.
الاتجاه الأول هو تفكيك رواية التاريخ حتى الآن. لقد مارس الغرب، عبر تاريخه الاستعماري، وأتقن التفسير والرواية الانتقائيين للأحداث، واختار تصوير نفسه على أنه منشئ الحضارة الحديثة وأنه قوة إرشادية خيِّرة. لكنَّ هذا السرد يتغير الآن؛ فقد كسرت تقنيات المعلومات، مثل الإنترنت ووسائل الإعلام الاجتماعية، احتكار المعلومات والتاريخ الذي كانت تسيطر عليه مؤسسات حراسة البوابات الغربية (شركات الإعلام، والجامعات، وناشرو الكتب، وأكثر). ونتيجة لذلك، يدرك الناس في جميع أنحاء العالم أن التاريخ لم يعد مقتصرًا على التفسير الغربي -بما في ذلك تصوير الغرب لخيريته المفترضة.
كان أحد المكونات المهمة لهذا الاتجاه فشل الغرب المتكرر في الاعتراف بماضيه البعيد عن الكمال. وعلى الرغم من تضخيمه الأخطاء المتصورة للآخرين، فقد التزم الصمت بشأن لحظاته البغيضة الخاصة، مثل تدمير الرواد الأميركيين الأوائل لثقافات الأمم الأولى، أو الاستغلال الأوروبي للقارة الأفريقية، أو معاملة أستراليا للسكان الأصليين.
الآن، أصبح بإمكان الدول غير الغربية أن توضح أن لبلدانها ومجتمعاتها تواريخ طويلة، لا يقتصر الأمر على أنها موجودة رغم التفسير الغربي فحسب، وإنما تحتاج إلى الاستكشاف والفهم والرواية.
الاتجاه الثاني هو إعادة تقييم النظام الدولي “القائم على القواعد”. وقد لا يحب صانعو السياسة في واشنطن سماع هذا، لكنّ المفهوم أصبح الآن موضوعًا للكثير من السخرية في جميع أنحاء العالم، وينظر إليه على نطاق واسع على أنه أداة يستخدمها الغرب للسيطرة على الشؤون العالمية والحفاظ على الهيمنة. وهناك استياء كبير متزايد يتوجه ضد الدول الغربية بسبب خرقها المتكرر لقواعدها الخاصة، ما يعني أن شرعية هذا النظام تخضع للتشكيك والاستنطاق على الرغم من جوانبه الإيجابية.
بينما تقوم المزيد من البلدان بتقرير مساراتها الخاصة في القرن الحادي والعشرين، يتعين على الغرب أن يدرك أن ميزان القوى الدولي قد تغير. لا يمكن للدول الغربية الاستمرار في فرض إرادتها على الآخرين -ويشكل صعود الصين ودول أخرى دليلًا على ذلك. ويتعين على الغرب أن يتصالح مع هذا الواقع الجديد، وأن يدرك أن هناك حاجة إلى نهج جديد أكثر براغماتية ومتعدد الأقطاب.
الاتجاه الثالث هو كشف القناع عن مفهوم “حفظ السلام” الغربي. على الرغم من تقديم نفسها على أنها الضامن للأمن العالمي، فإن الكثير من العالم ينظر الآن إلى الولايات المتحدة -وأوروبا بدرجة أقل- على أنهما تستفيدان من الحرب أكثر مما تُعنيان بتعزيز السلام حقًا. إن المجمع الصناعي العسكري الغربي -وخاصة في الولايات المتحدة- قوي جدًا لدرجة أنه بات من المعروف الآن أنه يقود السياسة الخارجية الأميركية إلى الحد الذي يديم فيه الصراعات من أجل الاستفادة من الحرب.
لقد أدركت بقية دول العالم أن الغرب وحده لا يمكن الوثوق به لقيادة جهود السلام العالمية، وخاصة إذا كان جزء كبير من اقتصاداته موجهًا بحيث يستفيد من الصراع.
الاتجاه الرابع البارز هو الإطاحة بالبنية الفوقية المالية الغربية. ليس استخدام الغرب لقوته المالية بشكل كبير لتحقيق مزايا وأغراض جيوسياسية سرًا كبيرًا -يتحدث صانعو السياسة والخبراء علنًا عن “تسليح التمويل” وتطبيق العقوبات على البلدان التي لا تمتثل للنوايا الغربية. وبالمثل، فإن قدرة الولايات المتحدة وحلفائها على تجميد، وحتى مصادرة احتياطيات الدول ذات السيادة -مثل أفغانستان، وفنزويلا، وروسيا- أرسلت موجات من الصدمة في جميع أنحاء العالم.
بينما تكتسب البلدان ذات العملات المستقرة نفوذًا، ينشأ الآن نظام اقتصادي متعدد الأقطاب، معيدًا تشكيل التحالفات الجيوسياسية، والدبلوماسية والاقتصادية وتوازن القوى داخل المؤسسات الدولية. وقد يمنح هذا التغيير الدول النامية قدرًا أكبر من المرونة في إدارة عملاتها وسياساتها النقدية، ويحد من قدرة الغرب على فرض عقوبات من جانب واحد. وعلاوة على ذلك، تجاوزت دول مجموعة “بريكس”، مؤخرًا، مجموعة السبع الكبار من حيث الناتج المحلي الإجمالي، مما يشير إلى إعادة توزيع للقوة الاقتصادية ويُلمح إلى مستقبل من التعاون في التجارة، والاستثمار، والبنية التحتية والمساعدة الإنمائية.
خامسا وأخيرًا، هناك الانهيار الملحوظ لمصداقية الصحافة الغربية. ويأتي هذا التطور في منعطف حرج، حيث أدت أوجه القصور المتكررة في السنوات القليلة الماضية إلى زيادة الوعي العالمي بدور وسائل الإعلام الغربية في إدامة الجوانب المفضلة للغرب من النظام العالمي الحالي -والذي غالبًا ما يكون على حساب البلدان والأمم الأخرى.
وبالمثل، تتجاهل التغطية أحادية الجانب للصراع الأوكراني بانتظام التعقيدات الجيوسياسية الوطنية والإقليمية في العلاقة الروسية الأوكرانية طويلة الأمد، وتاريخ توسع حلف الناتو في أوروبا. ويشكل عدم وجود تغطية حول تفجير “نورد ستريم”، الذي يَعتقد الكثيرون أن دولة غربية هي التي نفذته -مع إرفاق التقارير لدعم هذا الادعاء- ثغرة صارخة أسهمت في انعدام الثقة في وسائل الإعلام الغربية لدى القراء غير الغربيين والغربيين على حد سواء. وبعد أشهر فقط، اعترفت الصحافة الغربية بهدوء بالمسؤولية الغربية المحتملة، أو على الأقل، المعرفة بما حدث.
*نشر هذا التحليل تحت عنوان: ‘National Interest’: Five major trends illustrate how the World is changing
“الغد”