وليام مينتر – (ريسبونسيبل ستيتكرافت) 2023/6/23
على الرغم من كونها أقوى بكثير من خصومها على الورق، إلا أن الولايات المتحدة حققت نجاحا محدودا فقط في بناء تحالف عالمي لدعم أوكرانيا. الآن لم تعد معظم البلدان النامية، بما في ذلك القوى الناشئة في الجنوب العالمي، على استعداد لاتخاذ خيارات محصلتها صفر بين الولايات المتحدة ومنافسيها الجيوسياسيين.
في العام 2022، بلغ الإنفاق العسكري للولايات المتحدة 877 مليار دولار، أي أكثر من إجمالي 849 مليار دولار التي أنفقتها الدول العشر التالية مجتمعة. وكان الإنفاق الأميركي أكبر بثلاث مرات من الـ292 مليار دولار التي أنفقتها الصين، وأكثر من 10 أضعاف المبلغ الذي أنفقته روسيا.
بالإضافة إلى ذلك، تتمركز القوات العسكرية الأميركية في أكثر من 750 قاعدة في 80 دولة حول العالم. وليس لدى الصين ولا روسيا أكثر من حفنة من القواعد خارج حدودهما. وبذلك، إذا كان هناك أي بلد يمكن أن يدعي الهيمنة العالمية، فسيكون الولايات المتحدة.
مع ذلك، إذا كانت الهيمنة تعني القدرة على جعل الدول الأخرى تمتثل لمطالب المرء، فإن الولايات المتحدة بعيدة كل البعد عن أن تكون قوة عالمية مهيمنة. في سلسلة طويلة من الحروب، من كوريا وفيتنام في النصف الأخير من القرن 20 إلى العراق وأفغانستان في القرن 21، أظهرت الولايات المتحدة القدرة على إحداث دمار شامل، لكنها لم تفز بأكثر من انتصارات باهظة الثمن فحسب. ولم تقتصر التكلفة التي تكبدتها الولايات المتحدة على الأرواح المفقودة فحسب، بل شملت أيضًا تآكل الثقة بها في الداخل والخارج.
إذن، ما الذي يمكن فهمه من حرب أوكرانيا؟
في الولايات المتحدة وبريطانيا، يرى الكثيرون أن الحرب التي تخوضها أوكرانيا بمساعدة الغرب هي حرب عادلة، مع استحضار صور تعود إلى الحرب العالمية الثانية. وقد أشاد خبراء مثل تيموثي سنايدر من جامعة ييل، وتيموثي غارتون آش من جامعة أكسفورد، بالروح القتالية التي يتمتع بها الأوكرانيون باعتبارها استحضارا للدفاع الأثيني عن الديمقراطية، وروح المحارب اليوناني أخيل. وما تزال وسائل الإعلام الأميركية الرئيسية، مثل صحيفتي “الواشنطن بوست” و”نيويورك تايمز”، تكرس تغطية للحرب في أوكرانيا أكثر بكثير من أي صراع آخر في أي مكان آخر في العالم.
تظهر استطلاعات الرأي الأميركية أن التأييد الشعبي للحرب في أوكرانيا قد انخفض إلى حد ما هذا العام، كما قام بعض الجمهوريين في الكونغرس باستنطاق تكلفتها. لكن معظم السياسيين الأميركيين ما يزالون يرون أن دعم المفاوضات هو خطوة تتجاوز الحدود وغير مقبولة. وبعد سحب الدعوة إلى الدبلوماسية على عجل في الخريف الماضي، ما يزال الديمقراطيون التقدميون مترددين في التعبير عن شكوكهم علنًا. وبدلا منهم جاءت الدعوات المعلنة إلى التفاوض من الجيش، بما في ذلك الرئيس الحالي لهيئة الأركان المشتركة، الجنرال مارك ميلي، وسلفه الأدميرال مايك مولين.
في خطاب ألقاه في 2 حزيران (يونيو) في هلسنكي للترحيب بفنلندا في حلف الناتو، رفض وزير الخارجية الأميركية، أنتوني بلينكن، بشدة خيار وقف إطلاق النار في أوكرانيا. وتعهد الرئيس بايدن ورئيس الوزراء البريطاني، ريشي سوناك، اللذين اجتمعا في 8 حزيران (يونيو) في البيت الأبيض، بأن يواصل البلدان دعم أوكرانيا “مهما تطلب الأمر”.
الخبيرة الروسية فيونا هيل، التي تعمل الآن في “معهد بروكينغز” في واشنطن، هي منتقدة قوية للغزو الروسي لأوكرانيا وهدف فلاديمير بوتين المتمثل في استعادة الهيمنة على جيران روسيا المباشرين. ولكن، بينما كانت تتحدث في مؤتمر عقد في تالين بإستونيا في أيار (مايو) كانت لديها رسالة لافتة للولايات المتحدة أيضًا: “ربما تكون الحرب في أوكرانيا هي الحدث الذي يجعل وفاة “باكس أميركانا” واضحة للجميع… تريد (الدول الأخرى) أن تقرر بنفسها، لا أن يقال لها ما هو الذي في مصلحتها. باختصار، في العام 2023، نسمع رفضا مدويا للهيمنة الأميركية ونرى شهية ملحوظة لعالم من دون مهيمِن”.
ومضت هيل إلى القول:
”إن مقاومة دول الجنوب العالمي لنداءات الولايات المتحدة وأوروبا للتضامن مع أوكرانيا هي تمرد مفتوح. وهو تمرد ضد ما تراه هذه الدول على أنه الغرب الجماعي الذي يهيمن على الخطاب الدولي ويفرض مشاكله على الجميع، بينما يتجاهل أولوياتهم بشأن تعويض أضرار تغير المناخ، والتنمية الاقتصادية، وتخفيف عبء الديون… لقد عادت حركة عدم الانحياز في حقبة الحرب الباردة إلى الظهور -إذا كانت قد اختفت في أي وقت حقًا. في الوقت الحاضر، ليست هذه حركة متماسكة بقدر ما هي رغبة في النأي بالنفس حتى تبقى بعيدة عن الفوضى الأوروبية حول أوكرانيا. لكنها أيضًا رد فعل سلبي واضح جدًا على الميل الأميركي إلى تعريف النظام العالمي وإجبار الدول على الانحياز إلى أحد الجوانب”.
وبينما كان وفد من ست دول أفريقية، من بينها جنوب أفريقيا، يستعد لزيارة موسكو وكييف في 16 حزيران (يونيو) لاستكشاف خيارات السلام، قدم قادة السياسة الخارجية في الكونغرس طلبًا من الحزبين لمعاقبة جنوب أفريقيا على دعمها المزعوم لروسيا. ولتلبية مطالبهم، سيتعين على جنوب إفريقيا الامتثال الكامل للعقوبات الأميركية المفروضة على موسكو.
ليست هيل وحيدة في ملاحظة تراجع النفوذ العالمي للولايات المتحدة الذي ألمحت إليه أزمة أوكرانيا، على الرغم من اختلاف الآخرين في توصياتهم السياسية. بحجة أن ست دول في الجنوب العالمي ستقرر مستقبل الجغرافيا السياسية، حث محلل المخاطر العالمية، كليف كوبشان، صانعي السياسة الأميركيين على التركيز على الهند، والبرازيل، وتركيا، وإندونيسيا، والمملكة العربية السعودية وجنوب إفريقيا “من أجل منع حدوث ضعف كبير في موقف الولايات المتحدة في ميزان القوى العالمي”.
في المقابل، يؤكد باحثان من سويسرا والنمسا، بينما يشيران إلى أن “الحرب الحالية في أوكرانيا أدت إلى ظهور سياسات محايدة في ما يقرب من ثلثي العالم”، أنه لا ينبغي إدانة الحياد، وإنما يجب الاعتراف به كجزء لا مفر منه من أي صراع بين الدول. وهما يرفضان الحجة القائلة بأن “عدم مساعدة الجانب الطيب من الصراع الملحمي بين الخير والشر يساوي فعلك الشر بنفسك”. بدلا من ذلك، يمكن، بل وينبغي، صناعة الأطراف المحايدة أو غير المنحازة لكي تقوم بالتعامل مع المصالح الحقيقية للأطراف المتنازعة، فضلاً عن ملاحظة انتهاكات حقوق الإنسان التي يرتكبها أي من الأطراف.
إن رفض الانحياز إلى جانب بين القوى العظمى المتنافسة واضح أيضًا في جنوب شرق آسيا، حيث قد يتوقع المرء أن تكون المنافسة بين الولايات المتحدة والصين في ذروتها. ولكن، كما أشار الدبلوماسي السنغافوري الكبير السابق، كيشور محبوباني، في مقال له نشر مؤخًرا في مجلة “فورين أفيرز”، فقد اختارت “رابطة دول جنوب شرق آسيا”، (آسيان)، التعاون مع كل من الصين والولايات المتحدة.
وتشارك جميع الدول الأعضاء في (آسيان)، البالغ عددها 10 دول، في “مبادرة الحزام والطريق” الصينية التى تُعنى بإنشاء البنية التحتية، على الرغم من الحملة الأميركية القوية ضدها. ومن ناحية أخرى، تضم (آسيان) حليفين عسكريين للولايات المتحدة، الفلبين وتايلاند. ومعظم أعضاء المنظمة الآخرين، بما فيهم فيتنام، “يرحبون بهدوء بالوجود العسكري الأميركي كثقل موازن للصين”.
في الولايات المتحدة، ما يزال تأكيد مادلين أولبرايت قبل 25 عامًا على أن الولايات المتحدة هي “الأمة التي لا غنى عنها” مُتداولًا على نطاق واسع. ومن غير المرجح أن يكتسب الاعتراف الواسع بتراجع الهيمنة الأميركية الكثير من الزخم هنا في أي وقت قريب. ولكن من الناحية العملية، من المرجح أن يضطر صانعو السياسة في الولايات المتحدة إلى القبول بالواقع. لم تعد معظم البلدان النامية، بما في ذلك القوى الناشئة في الجنوب العالمي، على استعداد لاتخاذ خيارات محصلتها صفر بين الولايات المتحدة ومنافسيها الجيوسياسيين.
*وليام مينتر William Minter: محرر نشرة “أفريكا فوكس”. كان كاتبًا وباحثا وناشطا منذ منتصف ستينيات القرن العشرين، مع التركيز على القضايا الأفريقية والعالمية. درس في تنزانيا وموزمبيق في المدرسة الثانوية لـ”جبهة تحرير موزمبيق” (FRELIMO) في السنوات 1960-1966 و68-1974. وعمل مع خدمة “أخبار أفريقيا” (الآن allAfrica.com)، ومكتب واشنطن لأفريقيا، وغيرها من المجموعات ذات الصلة بأفريقيا. منذ تشرين الثاني (نوفمبر) 76، عمل كمستشار أول في مشروع بناء الجسور الجديد بين الولايات المتحدة وأفريقيا. درس مينتر في جامعة إبادان في نيجيريا في 1961-62. وهو حاصل على درجة الدكتوراه في علم الاجتماع وشهادة في الدراسات الأفريقية من جامعة ويسكونسن في ماديسون. أحدث كتاب لمينتر هو “انتصارات سهلة: التحرير الأفريقي والنشطاء الأميركيون على مدى نصف قرن، 1950-2000″، الذي شارك في تحريره جيل هوفي وتشارلز كوب جونيور.
*نشر هذا المقال تحت عنوان: A world without hegemons
“الغد”