ما كُتب عن كونديرا صاحب البساطة المدهشة La simplicité géniale، بعد وفاته، كثير، وكثير جداً. لدرجة أنه لم يُترك مديح إلا وطاله، وهو أمر طبيعي، فالرجل الذي ترجم إلى أربعين لغة، عظيم، وعالمي، ومد البشرية بأجمل النصوص وأكثرها عمقاً وسخرية من عالم يسير نحو حتفه. فقد رفض الظهور على شاشات التلفزيون على مدار 35 سنة، لدرجة المحو. فقد أصبح شبحاً يتخفى وراء كتبه كما سامويل بيكيت، وكأنه لا وجود له. كان يحمل شيئاً عميقاً في داخله يتبدى واضحاً على ملامح وجهه. ف»براغ» مدينته الأولى أصبحت بعيدة، بينما «باريس ليست متناوله». لا أحد من الذين كتبوا عنه تحدث عن صمته مع أنه لازمة مهمة في كتاباته الروائية. السمة الكبيرة عند كونديرا. والصمت محصلة وليست خياراً. لغة داخلية. فقد كان يعيش تحت ضغط خيبة نيتشه، ودنون سيرفانتس، وحزن كافكا، المثلث الذي يتجاذبه ويتوغل في كتاباته الإبداعية. هذا الصمت صنع الكاتب وصاغ داخله.
أتذكر أني التقيت به ثلاث مرات، الأولى في مكتبة «لاكومبياني» المواجهة للسوربون، التي كانت تقدم إحدى رواياته، روايته، في الثانية اشتركت في نقاش حول روايته الأولى بالفرنسية «الهوية» التي أثارت جدلاً كبيراً، إذ لأول مرة انتقل كونديرا للكتابة باللغة الفرنسية، الثالثة هي اللقاءات الخاطفة في الدائرة الباريسية السابعة، برفقة زوجته فيرا التي تبدو طفلة تحت قامته الثقيلة وظهره المنكفئ إلى الأمام قليلاً، التي قضى برفقتها نصف قرن. وكان سؤال الكتابة باللغة الفرنسية حساساً. إلى أي مدى تسعف اللغة الفرنسية الكاتب في وقت أن حياته اللغوية كانت كلها بالتشيكية، ومن الصعب أن يمتلك كاتب ما نفس القدرات التعبيرية عندما ينتقل إلى لغة أخرى يعرفها، لكنها غريبة عنه كممارسة يومية. لكن كونديرا كان براغماتياً، فهو يعيش في مجتمع آخر، ويريد من هذا المجتمع أن يعرفه وأن يقرأه، ليس عن طريق الترجمة التي ظل يشكك في جدوى قيمتها بالقياس للأصل، إذ أعاد النظر في كل رواياته المترجمة إلى اللغة الفرنسية، واعتبر نفسه كاتباً فرنسياً.
بعد كل هذه الجهود في العلاقة باللغة الفرنسية، لم يكرم في البداية بما يليق بكاتب كبير. تجربة المنفى حملت العنصرين المتناقضين. فقد ترك وراءه بلاداً كانت في حالة انهيار كلي، وانتمى لأخرى اختارها. هروبه نحو فرنسا كان بالنسبة له منفذاً للحرية. لكن المؤسف هو أنه ووجه بحالة خلفت فيه ألماً كبيراً. أول ما قام له أنه تقدم بطلب الحصول على الجنسية الفرنسية كان يريد أن ينهي علاقته بماض اسمه تشيكوسلوفاكيا وقتها (تشيكيا) دمره داخلياً. ظل يركض بين مكاتب ومكتب في ظل بيروقراطية فرنسية ثقيلة إلى مجيء الاشتراكيين وميتران إلى الحكم، فتدخل من خلال وزير ثقافته وقتها جاك لونغ، ومنحت له الجنسية في ظرف أقل من شهر، هو والكاتب كورتزار. تفرغ بعدها نهائياً للكتابة باللغة الفرنسية وظل يلح بشكل معلن أنه ليس كاتباً تشيكياً يكتب بالفرنسية ولكنه كاتب فرنسي. كان يرى في ذلك إنقاصاً من قيمته. لا يقال ذلك مثلاً عن كاتب روسي، ألماني، إيطالي، نمساوي يكتب باللغة الفرنسية. كان ذلك النعت «كاتب تشيكي يكتب بالفرنسة» يشعره بأنه خارج الدائرة الفرنسية. ولا أعتقد أن الكتابة بالفرنسية أعانته للحصول على نوبل، لأن من بين ضوابط التفضيل في الجائزة أن يكون الكاتب داخل لغته الأم، إلا في حالة انعدام كتابة اللغة المحكية التي ينتمي إليها الكاتب. لم تكن الكتابة باللغة الفرنسية مفيدة أيضاً لآسيا جبار، من هذه الناحية على قيمتها الإبداعية. جزء من «مأساة» نوبل ترك فجوة فيه، فقد رشح لها العديد من المرات كروائي يستحق الجائزة بامتياز، لكنه كان يصطدم في كل مرة بالخيبة، فتُمنح الجائزة لغيره. نظرياً طبعاً، لا أثر لذلك في حياته، ولكنه في النهاية ظل الإحساس قائماً في شكل «سخرية صامتة» تجاه كل ما كان يقلقه، من الأديب العاقل الذي يرفض أن تختم حياته باعتراف عالمي «جائزة نوبل»؟
كان إلى وقت قريب بلا جنسية، بعد أن أسقطت عنه الجنسية التشيكية بعد اتهامه بالخيانة الوطنية العظمى والمشاركة في ربيع براغ. أمر مثل هذا كان له ثقله من الناحية النفسية. لهذا نفهم جيداً قطيعته لكل ما يحيل إلى وطنه الأول. لدرجة أنه رفض أن تترجم أعماله إلى اللغة التشيكية. لكن لم تكن حياته في فرنسا أمراً سهلاً. لكنته اللغوية الفرنسية الشرقية وضعته في مدارات الأجنبي. كاتب كبير ولكنه ليس باريسياً أصيلاً. وربما عمق ذلك لديه الإحساس بالعزلة التي كان عليه تحملها مثلما فعل أساتذته الأوائل ومعلمهم الأكبر نيتشه.
للحصول على جائزة كافكا كان يحتاج إلى الجنسية التشيكية التي لم يستعدها إلا بعد التسعين سنة. سافر إلى وطنه الذي ظلت فيرا زوجته تحلم بالعودة له نهائياً. يظل وطنه الذي ترسخت تجربته الروائية فيه. حصوله على جائزة كافكا كانت تعني أن شيئاً تغير في علاقته بوطنه الأصلي. كافكا جزء من تجربته الروائية والحياتية حتى ولو كانت حياة كونديرا أكثر استقراراً بزواجه وحياته المنظمة من كافكا الذي عاش ممزقاً بين حياة أثثتها الخيبات والأمراض والنكران.
قصة أخرى عمقت صمته، لا أعتقد أنها مرت عادية في حياة كونديرا. السيرة التي كتبها عنه جون نوفاك Jean Novàk، تحت عنوان: «الحياة التشيكية في زمانه» (زمن كونديرا) من 900 صفحة والتي أثارت جدلاً واسعاً في الأوساط الثقافية التشيكية. فقد عمل جون نوفاك على تدمير الصورة المعطاة عن ميلان كوندا التي صنعها لنفسه في فرنسا وأوروبا. فقد كشف ما خفي من سيرته في الفترة الشيوعية التي كان عضواً فاعلاً فيها. يقول كاتب السيرة جون نوفاك لا بد أن يكون قد أثر بشكل بالغ في نفسية كونديرا: «كان كونديرا متلاعباً يكذب بشأن حياته وسخَر من كل الناس». يضاف إلى ذلك قصة وشايته في سنة 1950 بشاب هارب من خدمة الجيش الشيوعي، سجن على إثرها. رفض كونديرا التهمة واعتبرها مجرد هراء لا أساس له. فالكاتب الذي اعتبر النظام التشيكوسلوفاكي دكتاتورية في حالة تحلل وتفسخ في 1960 والذي شارك في ربيع براغ في 1968، فصل من عمله، ومنعت كتبه كلياً لا يمكنه أن يكون عميلاً ومخبراً لنظام كان يرى فيه هلاك تشيكوسلوفاكيا وقتها.
الصمت هو حالة سكينة بالخصوص بالنسبة لكاتب مثل ميلان كونديرا، يملك حساسية فنان عميق، مارس الموسيقى والفن التشكيلي، ومختلف الفنون. تستحق موضوعة الصمت أن تنال الاهتمام الذي تستحقه لأن الصمت يخترق نصوص كونديرا كلها.
“القدس العربي”