في السابق، ونحن أطفال صغار، كنا في فصل الصيف تحديدا، نجلس في أي مكان (داخل البيت أو خارجه) بشكل جماعي، هنا وهناك، حيث الذكور لوحدهم والإناث كذلك، ونطلب من كل واحد منا أن يقص علينا نكتة من أجل الاستمتاع وتزجية الوقت؛ أغلب الظن أن هذا الأمر كان مشاعا بين كل أطفال العالم. فمن هذه النكت ما كان يجعلنا نموت ضحكا، ومنها ما كان يجعلنا نضحك من صاحبها لحموضتها. كنا نضحك أحيانا على طبيعة الموضوع الذي يكون في الغالب تابوها ومثيرا، وأحيانا أخرى نضحك فقط لأن صاحب النكتة تفنن في سرد أحداثها.
الآن وقد تغير كل شيء، حتى الهواء الذي نستنشقه، انقرضت هذه العادات الجميلة، وأصبح الافتراضي يسكننا ونحن في أكثر اللحظات حميمية، ما جعلنا ننقل إيقاع الحياة، سواء كأطفال أو كبار، من حميمية الواقع إلى برودة الافتراضي، بما في ذلك أشكال وأساليب التنكيت. في هذا المقال سأقف عند هذا التحول، من خلال التمييز بين النكتة كفن أصبح ضربا من الماضي تقريبا، والمستملحات الافتراضية التي غزت شاشات هواتفنا، التي لم نعد قادرين على العيش دونه، لدرجة أنها أصبحت كالخبز والماء والهواء.
النكتة هي قصة قصيرة تحمل في طياتها معنى ساخرا أو مضحكا، وتهدف إلى إثارة الضحك أو التسلية أو الانتقاد، إنها حدث موجز يحمل في نهايته مفاجأة أو تناقضا أو سخرية تثير الضحك أو السخرية. وتعبّر النكتة الشعبية عن رؤية العالم والحياة من منظور معين، بحيث إنها تعكس ثقافة وقيم ومشاكل وآمال المجتمع الذي تنتمي إليه. كما تعتمد على استخدام اللغة العامية والمبالغة والتناقض والمفاجأة والتشويه والإشارة إلى مواقف أو شخصيات معروفة. النكتة هي تعبير ساخر عن ثقافة وعادات وقيم المجتمع الذي تنشأ فيه، كما تعكس رؤيته للواقع والظواهر الاجتماعية والسياسية والدينية، ولأنها تخضع لقواعد فنية وأساليب بلاغية تجعلها جذابة ومؤثرة، فإنها تستطيع أن تصل إلى حدود السخرية والتهكم والسب والشتم في بعض الأحيان، مما قد يثير الغضب أو الإساءة لدى بعض المستمعين.
تتنوع موضوعات النكتة الشعبية حسب الزمان والمكان والظروف والأحداث، التي تحدث في المجتمع. فقد تتحدث عن السياسة، أو الدين، أو الجنس، أو الأسرة، أو المهن، أو الأقليات أو غيرها من المجالات التي تثير اهتماما أو جدلا أو انتقادا أو استهزاء. كذلك، تختلف شخصيات النكتة الشعبية حسب التقاليد والأساطير والاستراتيجيات التي يستخدمها المضحكون لإثارة الضحك. فقد تظهر شخصيات مثل المحشش، أو المجنون أو المغفل، أو المغامر أو المخادع أو غيرها من الأدوار، التي تبرز جانبا من سلوك الإنسان اليومي. مع ظهور الفضاء السيبراني، الذي تطور بشكل مذهل، حتى أصبح الكل يتهافت عليه، خفت صوت الثقافة الشعبية الشفهية، وتحولت النكتة من السرد الشفهي الواقعي، أي الذي يتحقق في المكان والزمان، إلى أسلوب افتراضي يتحقق بالصوت والصورة في الـ»هناك» بعيدا عن الـ»هنا» الواقعي. وهو أسلوب يمكن تسميت بالمستملحات الافتراضية، وهي نوع من التفاعلات الإبداعية التي تحدث عبر شبكات التواصل الاجتماعي، حيث يقوم المشاركون بإطلاق عبارات أو صور أو فيديوهات، تحمل مغزى ساخرا أو نقديا أو موقفا محرجا، على حساب شخص أو جهة أو حدث.
إن المستملحات الافتراضية عبارة عن مصطلحات أو عبارات أو رموز تستخدم في المجتمعات الافتراضية للتعبير عن معاني أو مشاعر أو ردود فعل معينة. وتختلف هذه المستملحات باختلاف نوع وسيلة التواصل والمجتمع الذي تنتمي إليه.
إن المستملحات الافتراضية عبارة عن مصطلحات أو عبارات أو رموز تستخدم في المجتمعات الافتراضية للتعبير عن معاني أو مشاعر أو ردود فعل معينة. وتختلف هذه المستملحات باختلاف نوع وسيلة التواصل والمجتمع الذي تنتمي إليه. فقد تكون نصية أو صوتية أو رسومية أو عبارة عن مصطلحات أو عبارات أو رموز تستخدم في المجتمعات الافتراضية، كأداة للتعبير عن معانٍ أو مشاعر أو رأي أو موقف أو ردود فعل معينة. كما تختلف باختلاف نوع وسيلة التواصل والمجتمع الذي تنتمي إليه. وغير خاف أن ما قوى تأثير هذه المستملحات الافتراضية على الجمهور الافتراضي، كونها أصبحت تستفيد من إمكانات التكنولوجيا والإنترنت في نشر المحتوى بسرعة، وانتشاره بشكل واسع، لكن وجب التنبيه إلى أن هذه المستملحات، بقدر ما تخضع لقوانين وأخلاقيات المجتمعات التي تنشأ فيها، بقدر ما تصطدم أحيانا ببعض المحظورات أو المقدسات أو المسائل الحساسة، ما قد يثير التهديد أو الملاحقة أو الرقابة. ولعل من أشهر المستملحات الافتراضية، المتداولة بكثرة على شبكات التواصل الاجتماعي، أذكر الأمثلة التالية:
ـ الرموز التعبيرية (emoji) والابتسامات (emoticons) والصور الرمزية (avatars) والإيقونات (icons) والغيفتات (gifs) والميمز (memes) وغيرها من الرسومات التي تستخدم لإظهار المزاج أو الانطباع أو التفاعل مع المحتوى
ـ الاختصارات والكلمات المختصرة والأحرف الأولى والأكرونيمات وغيرها من الطرق التي تستخدم لكتابة كلمات أو جمل بشكل سريع وسهل.
ـ الأصوات والآهات والضحكات والصرخات وغيرها من التأثيرات الصوتية التي تستخدم لإبراز التعبير أو التأكيد أو التناغم مع المحادثة، مثل hmm وaha وwow وغيرها.
ـ الحركات والإيماءات والإشارات وغيرها من التصرفات، التي تستخدم لإظهار الانفعال أو الانجذاب أو الرفض أو التحدي أو غيرها من المواقف، مثل التصفيق والتقبيل والتهديد والإشارة بالإصبع وغيرها.
لقد أصبحت المستملحات الافتراضية، تشكل جزءا مهما من ثقافة المجتمعات الافتراضية، حيث إنها تسهل على الأعضاء التواصل بشكل فعال وسريع وجذاب. كما تساعد على خلق جو من المرح والإبداع والانسجام بين المشاركين، لكن ما ينبغي الانتباه إليه، هو وجوب استخدام هذه المستملحات بحذر شديد، حتى لا تؤدي إلى سوء فهم أو إساءة أو انزعاج، خصوصا إذا لم تكن مناسبة للسياق أو المستقبِل.
والحق أن الفرق بين النكتة والمستملحات الافتراضية، بيّنٌ وواضح؛ ويمكن تلخيصه في ما يلي:
ـ الأصل: النكتة هي نوع من التراث الشفهي للشعوب، يعود إلى زمن بعيد، بينما المستملحات الافتراضية هي ظاهرة حديثة، نشأت مع ظهور شبكات التواصل الاجتماعي.
ـ الوسيلة: النكتة تنقل عن طريق الكلام أو الكتابة، بينما المستملحات الافتراضية تنقل عن طريق الإنترنت، وتستخدم وسائط متعددة مثل الصور والفيديوهات والرموز التعبيرية.
ـ الهدف: النكتة تهدف إلى إضحاك المستمعين أو التسلية أو الانتقاد، بينما المستملحات الافتراضية تهدف إلى إثارة الجدل أو التأثير أو المشاركة في قضية معينة.
ـ المضمون: النكتة تعتمد على قصة مختلقة أو مبالغ فيها، تحمل مغزى ساخرا أو مضحكا، بينما المستملحات الافتراضية تعتمد على عبارة أو صورة أو فيديو يحمل مغزى نقديا أو محرجا على حساب شخص أو جهة أو حدث.
ـ الجمهور: النكتة توجه إلى جمهور محدود ومعروف، يشارك في ثقافة وعادات وقيم المجتمع الذي تنشأ فيه، بينما المستملحات الافتراضية توجه إلى جمهور واسع وغير معروف، يختلف في ثقافاته وآرائه وانتماءاته.
لموضوع النكتة والتنكيت الافتراضي دور مهم في التواصل الإنساني والثقافي. بحيث أنهما يساهمان في تعزيز الإبداع والتفكير النقدي والتعبير عن الرأي والانتقاد البناء، كما يساهمان في خلق جو مناسب للترفيه والتعلم والتغيير. لكن ما ينبغي التأكيد عليه هو أن التنكيت الافتراضي، هو الآن أمام مجموعة من التحديات والمخاطر التي تواجه، في ظل التطور التكنولوجي والتغيرات الاجتماعية والسياسية. لذلك ندعو جمهور الفضاء الأزرق إلى الانتباه إلى هذه المخاطر، وإلى ضرورة التعامل مع المستملحات الافتراضية بكثير من الحكمة والمسؤولية.
كاتب مغربي
“القدس العربي”