واشنطن: الهجوم المفاجئ الذي شنته حركة حماس الفلسطينية ضد إسرائيل “مأساوي في حد ذاته”. وعدد القتلى بالنسبة لعدد السكان في إسرائيل يجعل خسائرها في هذه الهجمات عدة أمثال خسائر الولايات المتحدة في هجمات 11 أيلول/سبتمبر 2001. ويمكن أن يزداد الموقف سوءا إذا انخرط حزب الله اللبناني الموالي لإيران في الصراع بشكل كامل، فتجد إسرائيل نفسها في مواجهة متعددة الجبهات ويتحول الصراع بين حماس وإسرائيل إلى صراع إقليمي أوسع.
ويرى المحلل الأمريكي هال براندز الباحث في معهد أمريكان إنتربرايز، في تحليل نشرته وكالة بلومبرغ للأنباء، أن الصراع الدائر في غزة حاليا مجرد جزء من أزمة أوسع وأشد كثافة يواجهها الأمن العالمي، بما ينهي ما سمي بعصر السلام الأمريكي الذي تم الترويج له بعد انهيار الاتحاد السوفيتي وانتهاء الحرب الباردة.
وبحسب براندز أستاذ كرسي هنري كيسنجر للشؤون العالمية في كلية الدراسات الدولية المتقدمة بجامعة جونز هوبكنز، تواجه أوروبا أسوأ أزمة أمنية منذ عقود، بسبب الحرب الروسية ضد أوكرانيا. كما تتزايد مخاطر نشوب حرب في منطقة البلقان حيث أجبرت تحركات القوات الصربية حلف شمال الأطلسي (ناتو) على تعزيز قواته في إقليم كوسوفو. وفي منطقة القوقاز استغلت أذربيجان انشغال روسيا في حربها ضد أوكرانيا لكي تسيطر على إقليم ناجورنو كاراباخ من أرمينيا، مما أدى إلى تشريد حوالي 100 ألف مدني. وعلى طول قوس عدم الاستقرار الممتد من شرق أوروبا إلى جنوب شرق آسيا مازالت عمليات التطهير العرقي والغزو موجودة بصورة قوية في العالم.
ويقول براندز المؤلف المشارك لكتاب “منطقة خطر: الصراع المقبل مع الصين” في تحليله، إن منطقة غرب المحيط الهادئ أقل عنفا حاليا لكنها ليست أقل خطورة. ففي منطقة مضيق تايوان الجاهزة دائما للاشتعال، تحاول الصين إجبار تايوان والولايات المتحدة وحلفائها الإقليميين على الاستعداد لمواجهة تحركاتها ضد الجانب الآخر من المضيق. كما يتزايد التوتر في بحر الصين الجنوبي بعد أن بدأت الفلبين التحرك لتأكيد حقوقها الإقليمية بصورة أكبر. وفي شبه الجزيرة الكورية تحسن كوريا الشمالية باستمرار قدراتها النووية والصاروخية، في حين تغذي حرب بوتين بالذخيرة وغيرها من الموارد.
والآن يأتي الدور على الشرق الأوسط. فمنذ أسابيع قليلة قال جاك سوليفان مستشار الأمن القومي الأمريكي إن المنطقة “اليوم أهدأ مما كانت عليه قبل عقدين”، والآن يبدو أن الرجل مضطر لكي يعكس تصريحه.
فإيران تواصل التقدم نحو امتلاك سلاح نووي كجزء من تحركاتها للهيمنة في الشرق الأوسط. وفي الأسبوع الماضي أسقطت الولايات المتحدة طائرة مسيرة تركية فوق سوريا وهو ما يظهر استمرار التوتر في سوريا أيضا. والآن ومع اشتعال الموقف في الشرق الأوسط مجددا، أصبحت المناطق الحيوية الثلاث لأوراسيا مضطربة.
في الوقت نفسه أصبحت الانقلابات العسكرية في منطقة الساحل بأفريقيا أمرا متكررا. ويغرق السودان في حرب أهلية، وانتشرت التنظيمات الجهادية المتطرفة في أنحاء القارة. وفي أمريكا اللاتينية تتراجع الديمقراطية ويتزايد نفوذ عصابات الجريمة التي ترهب السكان العزل.
ويقول براندز عضو مجلس الشؤون الخارجية التابع لوزارة الخارجية الأمريكية، إن هذه الاضطرابات تؤثر على جهود مكافحة ظاهرة التغير المناخي وتؤدي إلى موجات جديدة من اللاجئين في مختلف قارات العالم. وأصبح من الصعب العثور على منطقة من العالم لم تتضرر من الاضطراب الحالي والذي يكشف عن عدة حقائق في العالم المعاصر.
أولها انتهاء عصر السلام الأمريكي(باكس أمريكانا) الذي شهدته مرحلة ما بعد الحرب الباردة. فعلى مدى جيل كامل بعد انهيار الاتحاد السوفيتي وتفكك الكتلة الشرقية الشيوعية مطلع تسعينيات القرن الماضي شهد العالم مستوى تاريخي منخفض من المنافسة الجيوسياسية والأيديولوجية تظرا لامتلاك واشنطن وحلفائها لتفوق كاسح على الدول الأخرى، لكن الموقف تغير الآن مع ظهور لاعبين يحاولون تحدي النفوذ الأمريكي وخلق مناطق نفوذ لهم وبخاصة الصين وروسيا وإيران.
وثانيها تنامي العلاقات بين هؤلاء اللاعبين الذين يتحدون النفوذ الغربي بصورة لم تحدث طوال العقود الماضية. وقد يكون من الخطأ تصور أن روسيا التي ترتبط بعلاقات جيدة مع إسرائيل، لها يد في أحداث غزة الأخيرة. لكن الصواب أن الحرب في أوكرانيا عززت الشراكات العسكرية بين روسيا وإيران وكوريا الشمالية والصين. وتحالف الدول الأربعة يضاعف الخطر الذي تمثله كل دولة بمفردها بالنسبة للولايات المتحدة والغرب.
ثم أصبحت الأزمات والتحديات مختلفة الأنواع تندمج بشكل متزايد. وقد كان يمكن القول إن التنافس بين القوى الكبرى موجود وأن خطر الإرهاب وتحديات ما بعد الحرب الباردة انتهت. لكن التطورات الأخيرة أظهرت أن الدول يمكن أن تستخدم الجماعات المسلحة للضغط على الدول المعادية لها.
وأخيرا يمكن القول إن النظام الدولي يتعرض لمزيد من الضغوط في المزيد من مناطق العالم، مقارنة بأي وقت مدة منذ فترة الفوضى بعد الحرب العالمية الثانية. ويجب أن يكون التحرك لمنع انهياره متعدد الأطراف، ويبدو أنه بدأ الآن، من خلال التحالفات الدولية سواء لمواجهة الصين أو روسيا أو حتى إيران.
(د ب أ)