واللافت أيضاً أن مقاهي بيروت القديمة، مقاهي الحكايات والسرديات، أصبحت طللاً، إذ لا شيء يبقى على حاله في هذه المدينة، خصوصاً مع ما أصابها من حروب وتغيّر ديموغرافي وفورات عقارية، بدلت نسيجها وثقافتها… ومن مقاهي زمن الطلل، يبقى مقهى فيصل من أشهر الفضاءات في تاريخ بيروت المعاصر، في مرحلة كانت المقاهي مثل ساحات اثينا اليونانية الفلسفية. وفي هذا السياق، يروى المفكر الراحل منح الصلح، الملقب بسقراط المقاهي، أنّ البريد الخارجي الذي كان يصل إلى الجامعة الأميركية في بيروت، وهي بالمناسبة أقدم جامعة خاصة حديثة في المشرق العربي (1866) في شارع يحمل اسم مؤسسها دانيال بلس، يحمل العبارة التالية: “الجامعة الأميركية قرب مقهى فيصل”…
كان “فيصل”، المطعم الأكثر صخباً وتأثيراً وأهمية وشهرة، ليس في بيروت وحدها، بل في البلدان العربية أيضاً. وعلى هذا لم يكن غريباً أن يكتب الصحافي سمير عطالله في تقديمه كتاب “مطعم فيصل/ مقابل الجامعة الأميركية في بيروت/ ذاكرة المكان”(*) للصحافية إيمان عبدالله: “الذين لم يعرفوا مطعم فيصل أو تلك الحقبة الجميلة، يعتقدون أنه من صنع المخيلة، أو أنّه وجد كرمز لمرحلة من دون أن يكون حقيقة بالضرورة”، فميزته الأولى والأخيرة كانت التصاقه بالجامعة الأميركية و”كأنه كلية أخرى من الكليات”، وتعدّدت وظيفة فيصل من مجرد مطعم إلى نادٍ سياسي أو مقهى ثقافي، أضحى للبعض على غرار “كافيه دي فلور”، …و”دو ماغو”، لجان بول سارتر وسيمون دي بوفوار، وقد أعطى طابعاً ثقافياً لشارع بلس، الذي شبهه البعض، ومنهم الكاتب المصري أحمد بهاء الدين، بالحي اللاتيني في باريس.
وإذا كان المؤرخ نقولا زيادة، وهو من رواد مقهى فيصل، تمنّى أكثر من مرة كتابة تاريخ المطعم، وقد كتب شطراً من هذا التاريخ في جريدة “الحياة”، فالكاتبة ايمان عبدالله، في هذا الكتاب، تحاول قدر المستطاع التوثيق لهذا المكان بطريقتين: أولاً جمع معلومات وذكريات منشورة في كتب ومقالات عن فيصل، ووضعها في سياق الأحداث الاجتماعية والسياسية في تلك الفترة، والمؤثرة في الجسم الطلابي. وثانياً من خلال مقابلات أُجريت مع شخصيات عرفت المكان وشهدت له. والكتاب هو توثيق للمكان ورواده وخدماته وبعده السوسيولوجي والمديني والثقافي والسياسي، ومن خلال الأبحاث التي أجرتها الكاتبة، لم تعثر على وثيقة تؤكد السنة التي تأسس فيها، لكن المعطيات التي استقتها من حفيدي المؤسِّس توفيق سعادة، ومن مقابلة مع الباحث جان داية، تشير إلى أن المطعم تأسس العام 1919 أو 1920 في أبعد تقدير. أما بالنسبة إلى التسمية، فلا تنسب الى الملك فيصل، كما يشاع، بل الى لقب العائلة. وفي مراجعة مطبوعات الجامعة الأميركية في بيروت، لا سيما الكلية، يعتبر مطعم فيصل من ضمن مطاعم الجوار، ولدى ذِكر فيصل يتبادر الى الذهن “الأنكل سام”، ومن بين مطاعم الجوار صبغ هذان المطعمان الشارع بهما، غير أن مفهوم “أنكل سام” كان مختلفاً، اذ سيطر الطابع الغربي عليه وعلى نوعية الطعام، وكانت الفتيات تتجرأ على دخوله.
ومطعم أو مقهى فيصل، على ما تظهر الوقائع، أتى نتيجة تأثيرات بناء الجامعة الاميركية على المنطقة، وما حملته من أحلام وتحولات وتبدلات في أنماط العيش والثقافات. فينقل حفيد المؤسس، أن جده توفيق الآتي من بلدة عين عنوب، كان يكمل في العام 1917 أعمال النجارة في الطابق الأخير من مبنى وست هول المخصّص لنشاطات الطلاب قي الجامعة في بيروت، وفي العام 1919 أسس المطعم، وكان من بين الذين عملوا أيضاً على بناء سقف مبنى الكنيسة في الجامعة. وعفيفة، شقيقة توفيق، هي التي شجعته على النزول إلى بيروت.
وكانت طاولات المقهى رمادية الكراسي قوية، وكل الأشياء حادة ومتينة تذكّر بطابعه الذكوري، إذ لم تدخل المرأة المطعم إلا أواخر الخمسينيات وبداية الستينيات، وكان دخول النساء والفتيات خجولاً، رغم أنهن دخلن الجامعة الاميركية باكراً. ومن مميزات المطعم، شخصية صاحبه توفيق الذي يرتدي الطربوش على الطريقة البيروتية أو التركية ويوصف بكرمه ولطفه. ومن بعده، أتى ابنه فريد الذي يحبّ المشروب ولعب الورق، وكان من هواة السيارات السريعة ويقود سيارة من نوع فورد حسده عليها كثيرون، وعرف عنه أنه كان ينجذب إلى النساء الاسبانيات لدرجة أنه تعلّم اللغة الاسبانية. إلا أن فريد، ولسوء تقديره الأمور، بحسب ما ينقل كتاب أيمان عبدالله، وجد نفسه مضطراً لبيع جزء من المطعم لجورج بارودي لتغطية نفقات الحياة الباهظة التي اختار أن يعيشها.
وإذا كانت الجامعة الأميركية في بيروت منذ نشأتها، تميزت بجو ليبرالي ومعارك سياسية وغير سياسة، وكانت لطبيعة التعليم فيها تأثير في الجسم الطلابي والجامعي، فقد تخطت الحرَم الجامعي إلى الجوار والمحيط. فيروى أنّ الشاعر سعيد عقل، كان كثير التردّد على مطعم “فيصل” وقد نظم على إحدى طاولاته الخشبية احدى أجمل قصائده التي تغزل فيها بطالبة كانت محط إعجاب الجميع: سمراء يا حلم الطفولهْ وتمنّع الشفة البخيلهْ/ لا تقربي مني وظلي فكرة لغدي جميلهْ… ويتردّد ايضاً أن الهيئة الادارية لجمعية “العروة الوثقى” طلبت من سعيد عقل ان ينظم لها نشيداً يجسد الحلم العربي، فأبدع في مطعم “الفيصل” ذلك النشيد الذي يعتبر للآن من عيون الشعر العربي القومي ومطلعه: “للنسور ولنا الملعب والجناحان الخضيبان بنور العلى والعرب ولنا القول الأبي والسماح اليعربي والسلاح ولنا هز الرماح في الغضوب المشمس ولنا زرع الدنى قبباً زرق السنا ولنا صهلة الخيل من الهند الى الأندلس”.
وفي الستينيات وأوائل السبعينيات، انطلقت الحركات الطلابية، وكان مطعم فيصل المكان المناسب، ولم يكن توفيق سعادة ملتزماً بأي حزب عروبي، لكنه كان يميل الى الأفكار العروبية، فكانت روحية مطعم فيصل عربية، حتى ساد اعتقاد أن اسم المطعم نسبة الى الملك فيصل الهاشمي. وكان المطعم “مرآة تعكس الأوضاع العربية بوضوح”(ميشال حجا)، وتلازم ذِكره مع ذِكر منح الصلح، واشتهر أيضاً “خصمه اللدود” كلوفيس مقصود، وقد شَكَّلا معاً، لفترة طويلة، ثنائي الجلسة الممتعة فكراً وظرفاً. وينسب إلى السياسي كمال ناصر قوله: لا لزوم لدائرة علوم سياسية في الجامعة ما دام مقهى فيصل يقوم، بالنيابة عنها، بهذه المهمّة المستحيلة. فمن مطعم “فيصل” انطلقت أحزاب. على طاولاته، أدار مؤسس الحزب السوري القومي الاجتماعي، انطون سعادة، حوارات مع شبان وطلاب صاروا لاحقاً من تلامذته، ومنهم هشام شرابي. ومن كراسي المطعم، أطلق جورج حبش، مع رفيقيه وديع حداد وهاني الهندي، نواة “حركة القوميين العرب” التي نمت لاحقاً وكان لها شأن في العالم العربي. ويروي الصحافي سمير شاهين “إن حلقات مطعم فيصل العقائدية لم تكن توفر في حملاتها النظام اللبناني، بل كانت تشمله بالهجمات وتعتبره جزءاً من النظام العربي الواحد”. والمطعم كان بمثابة المعلَم، تحرص الشخصيات اليسارية العربية عند زيارتها الى بيروت على التردّد عليه والمشاركة في أجوائه، مثل عبدالرحمن اليوسفي رئيس وزراء المغرب السابق، ومحسن العيني رئيس وزراء اليمن السابق، وعبدالقادر بن صالح رئيس مجلس الشعب الجزائري الذي عمل في بيروت طويلاً كمراسل صحافي”… ومن رواد المقهى سعيد تقي الدين، وعبد الله سعادة، وعبد الله قبرصي، وإنعام رعد، وأحمد شومان وسعيد تقي الدين ويوسف سلامة، وكمال جنبلاط، ونديم دمشقية، ويوسف الخال، وأدونيس وخليل حاوي، وميشال أبو جودة وكمال ناصر وعبد المحسن أبو ميزر وكمال الصليبي وقسطنطين زريق، وأمين نخلة…
ولما اندلعت الحرب العبثية في بيروت وجارَت على المقاهي، ناءَ فيصل تحت وطأتها وأغلق أبوابه، وتساءل القوم: هل يمكن أن تعود بيروت إلى سابق عزها وازدهارها من دون مقاهيها، ولا سيما مقهى فيصل؟
(*) يصدر الكتاب قريباً عن دار نلسن في بيروت.
“المدن”