في ظلّ عودة محتملة لدونالد ترامب إلى البيت الأبيض، تستعدّ أوروبّا لأسوأ الاحتمالات، بما فيها انسحابه من حلف شمال الأطلسيّ (ناتو). لتهدئة خواطر الغربيين وحتى الأميركيّين الذين استثمروا طويلاً في هذا الحلف، سنّ الكونغرس تشريعاً يمنع أيّ رئيس أميركيّ من سحب الولايات المتحدة من الناتو بدون تشاور مع المشرّعين. لم يذكر التشريع ترامب بالاسم، لكن من الواضح أنّ الرئيس السابق مستهدف في حال فوزه بالانتخابات المقبلة وقرّر الإقدام على هذه الخطوة.
وافق الكونغرس على التشريع، وهو مقترح قاده السيناتور الجمهوريّ عن فلوريدا ماركو روبيو وزميله الديموقراطيّ عن ولاية فرجينيا تيم كاين، ضمن قانون تفويض الدفاع الوطنيّ للسنة الماليّة 2024 والذي أقرّه مجلس النوّاب الخميس بعدما كان مجلس الشيوخ قد وافق عليه قبل يوم واحد. ويبقى على الرئيس جو بايدن التوقيع عليه كي يصبح نافذاً. في المجموع، وافقت غالبيّة 310 مشرّعين مقابل معارضة 118 للقانون على قانون التفويض. وتضمّن الأخير موازنة دفاعيّة قياسيّة بلغت 886 مليار دولار بارتفاع 3 في المئة عن الموازنة الدفاعيّة للسنة الماضية.
قيود شديدة
ينصّ القانون على منع الرئيس من تعليق أو إنهاء أو شجب أو الانسحاب من الناتو بدون تشريع من الكونغرس أو موافقة ثلثي أعضاء مجلس الشيوخ. وينصّ أيضاً على وجوب إخطار الرئيس الكونغرس قبل 180 يوماً من تنفيذ خطّة الانسحاب. بالتالي، سيتوفّر وقت طويل أمام الكونغرس لمناقشة قرار الرئيس. وعلى أيّ حال، يستحيل تصوّر موافقة ثلثي أعضاء مجلس الشيوخ على قرار كهذا. فقد نجح الأخير في سنّ قانون تفويض الدفاع بغالبيّة 87 مؤيّداً من أصل مئة. وأيّد 95 سيناتوراً انضمام فنلندا إلى الناتو في صيف 2022.
وقال السيناتور كاين الذي كان مرشّحاً إلى نيابة هيلاري كلينتون في الانتخابات الرئاسيّة الأميركيّة سنة 2016 إنّ القانون “يعيد تأكيد دعم الولايات المتحدة لهذا الحلف الجوهريّ الذي يعدّ أساسياً لأمننا القوميّ. وهو يوجّه أيضاً رسالة قويّة إلى المتسلّطين حول العالم بأنّ العالم الحرّ يبقى متّحداً”.
“من أصعب المهامّ”
كانت فرضيّة انسحاب ترامب من الناتو خلال ولاية ثانية محتملة مطروحة بشدّة في الآونة الأخيرة. سبب ذلك أنّ ترامب شكّك في ولايته الأولى بجدوى الحلف، حتى أنّه فكّر في الانسحاب منه بين 2018 و2019. الجنرال البحريّ المتقاعد جون كيلي الذي كان أحد كبار موظّفي ترامب قال إنّ “واحدة من أصعب المهامّ التي واجهها كانت محاولة منعه من الانسحاب من الناتو”. السبب الثاني وقد يكون الأهمّ على المستوى العمليّ هو أنّ ترامب، بعكس ولايته الأولى، سيعيّن عدداً كبيراً من الموالين له في الإدارة. بالتالي، سيغيب “الراشدون في الغرفة” الذين كانوا يمنعونه من اتّخاذ “أسوأ” قراراته.
بالمقابل، يرى مؤيّدو الرئيس السابق أنّه لولا انتقادات ترامب للحلفاء لما رفع قسم كبير منهم إنفاقهم الدفاعيّ بحسب تعهّدهم سنة 2006. حينها، اتّفق الحلفاء على إنفاق 2 في المئة من موازنتهم العامّة على الشؤون العسكريّة، لكنّ أزمة 2008 الماليّة دفعت جزءاً كبيراً من دول الحلف إلى خفض مخصّصاتهم الماليّة الدفاعيّة. في 2014، ومع ضمّ روسيا شبه جزيرة القرم، تعهّد الحلفاء بعكس المسار التنازليّ للإنفاق العسكريّ وبمعاودة تنفيذ التزاماتهم بحلول 2024.
لكنّ معارضي الرئيس يقولون إنّه ينظر إلى التحالفات من الجانب الماليّ حصراً ويشير مستشاره الأسبق لشؤون الأمن القوميّ جون بولتون إلى أنّ الرئيس السابق كان يواجه صعوبة في فهم القضايا الماليّة للحلف الأطلسيّ ويعتقد خطأً أنّ الزيادة في الإنفاق الدفاعيّ يجب أن تعود إلى الخزانة الأميركيّة. وبولتون هو من بين المحلّلين الذين يرجّحون انسحاب ترامب من الناتو لو فاز بولاية ثانية. ولم تكن العلاقات الأطلسيّة وحدها عرضة للتوتّر بسبب ضغط ترامب، بل أيضاً العلاقات بين الولايات المتحدة وشركائها في شرق آسيا.
النوم بشكل أفضل
في تعليق على منصّة “أكس”، كتب القائد الأعلى الأسبق لقوّات الناتو الأميرال جيمس ستافريديس: “أنباء سارّة: سيضيف ذلك ضمانة ضدّ الفكرة الغبيّة بالانسحاب من الناتو. أنباء سيّئة: إنّنا بحاجة إلى هذا الأمر على الإطلاق. لكنّني سأنام بشكل أفضل في الليل”.
وهكذا على الأرجح سيفعل المهتمّون الغربيّون ببقاء أكبر حلف عسكريّ في التاريخ. لكن قد لا تطول فترة النوم الهادئ كثيراً. وليست المشكلة الأساسيّة في أنّ تيّاراً أميركياً وازناً لم يعد مهتماً بالحلف الذي استغرق بناؤه وتعزيزه أكثر من سبعة عقود. لا يزال هناك احتمال في أن يطعن ترامب بهذا القانون.
في الماضي، كانت المحاكم تتفادى التدخّل في خلاف بين الرؤساء ومجلس الشيوخ حول قضيّة الانسحاب من المعاهدات الدوليّة. والدستور أكثر وضوحاً لجهة طلب موافقة مجلس الشيوخ على قبول واشنطن دخول معاهدة جديدة في مقابل الانسحاب منها. من المرجّح أن يكون صدام محتمل كهذا بين السلطات الثلاث جديداً بالنسبة إلى المراقبين.
في حديث إلى “واشنطن بوست”، يقول الباحث في “معهد بروكينغز” مايكل أوهانلون إنّ “رئيساً مستقبلياً قد يتحدّى جهداً كهذا ويتذرّع بصلاحيّات الرئيس كقائد أعلى بموجب المادّة الثانية من الدستور. سيكون الأمر، على ما أعتقد، أرضاً مجهولة إذا ما دُفع بهذه القضيّة إلى الواجهة”.
القلق تضاءل… لكنّه لم يختفِ
قال كاين للصحافيّة آن أبلباوم إنّه يتوقّع أن تنجح المحاكم في الدفاع عن القانون لكنّه يعترف بأنّه سيكون هناك نوع من شدّ الحبال قبل ذلك. ترى أبلباوم أنّه بمجرّد أن يقترح ترامب خطّة كتلك، سيكون الضرر قد وقع حتى قبل انعقاد الكونغرس لدراسة خطوته. فقوّة الناتو بحسب رأيها معنويّة بالدرجة الأولى وتنبع من إدراك روسيا بأنّ الأميركيّين مؤمنون بالدفاع الجماعيّ.